تعتبر البطالة آفة اجتماعية تؤثر بشكل بليغ على بنيان المجتمع وتشكل عائقاً كبيراً أمام التنمية الاقتصادية الشاملة للدولة. فالنمو الاقتصادي وتحسين أوضاع المواطنين يحتاج إلى خلق فرص للشغل تقوم بضخ دماء جديدة على الطبقة العاملة في البلد وإرساء ديناميكية اقتصادية داخل حلقة متعددة الفاعلين وتساهم في ارتفاع الإنتاجية العامة، وزيادة مردودية ومداخيل الدولة، والارتقاء بمستوى عيش الموطنين.
مما لا شك فيه، أن تزايد البطالة يتحوّل إلى كارثة إنسانية تجرف طاقات الدول وتحول دون تحقيقها للغايات الاقتصادية المنشودة، كما تصبح بمثابة كلفة باهظة على كاهل المجتمع، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالبطالة عند الشباب باعتبارهم المحرك الرئيسي لنهضة الأمم وأساس التنمية البشرية، ويصير الأمر أكثر تعقيداً وصعوبة عندما تشكل البطالة عند الشباب، خصوصاً أصحاب الشهادات العليا النسبة الكبيرة في الفئة العاطلة داخل المجتمع.
في المنطقة العربية، تعتبر البطالة عند الشباب أحد أهم الإكراهات الاقتصادية التي تواجه الحكومات العربية، كما صار التشغيل على رأس المطالب الاجتماعية التي تضمن للشاب حياة مستقرة وكريمة تغنيه عن سنوات الانتظار أو الهجرة، ما يفرغ الوطن من طاقاته العلمية ويخسره ثروته البشرية المتعلمة والشابة.
في المغرب، شكلت البطالة، منذ الاستقلال، تحدياً حقيقياً للحكومات المتعاقبة، وأصبح ذلك ملحاً مع تزايد نسبة الشباب التي تتجاوز 65% من مجموع السكان وخاصة مع التطور الكبير في أعداد الجامعيين والمتخرجين من المدارس العليا مع محدودية عروض الشغل التي يطرحها الاقتصاد المغربي.
وتجدر الإشارة إلى أن معدل البطالة يقارب 10% حسب الأرقام الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط وهي مؤسسة حكومية مغربية، أكثر من 75% من العاطلين هم من حاملي الشهادات العليا ويتمركز معظمهم في المجال الحضري.
كما أن نسبة مساهمة النساء في الشغل لم تتجاوز على المستوى الوطني 22.6%، ولا تتجاوز نسبة العاملين المتوفرين على تغطية صحية وطنياً 20.5%، كما أن 62.6% يزاولون عملهم دون عقد عمل، فضلاً عن أن 3% فقط من الساكنة النشيطة العاملة تنخرط في المنظمات النقابية أو المهنية.
وإجمالاً، توضح هذه الأرقام خطورة البطالة ومدى تأثيرها على الاقتصاد المغربي والبنية السكانية، حيث نجد أن من خصائصها أنها بطالة المتعلمين والحاصلين على الشهادات العليا، كما أنها بطالة تخص بشكل كبير الشباب من حيث الفئة العمرية والنساء من حيث النوع.
إضافة إلى أن ثلاثة أرباع الشباب العاطلين يتمركزون في الوسط الحضري الذي يعرف ارتفاعاً مهولاً لتكلفة العيش. وقد أفاد تقرير صادر عن المجلس الاقتصادي، الاجتماعي والبيئي وهي مؤسسة حكومية مغربية أن تشغيل الشباب في المغرب يظل هشاً وغير مستقر، لكون مناصب الشغل التي تشغلها هذه الفئة، غالباً ما تكون أقل أجراً من غيرها، ونادراً ما تكون تعاقدية وقلما تتمتع بنظام الحماية الاجتماعية، مشيراً إلى أن 40% من الشباب العاملين يشتغلون بدون أجر، الأمر الذي يبين سيطرة الاقتصاد غير المنظم على المنظومة الاقتصادية المغربية مع تزايد الأنشطة المخالفة للقانون وغير المصرح بها والتي تحصد عائداً لا تستفيد الدولة منه ويعطل الفعالية الاقتصادية في خلق فرص للشغل.
ومما يجب التوقف عنده، أن البطالة المتفشية عند الجامعيين وحاملي الشهادات العليا تدق ناقوس الخطر، ليس فقط في ظل عدم قدرة الاقتصاد المغربي على استيعاب هذه الطاقات المتعلمة وتوفير فرص الشغل على الرغم من تزايد الاستثمارات الأجنبية وإقامة استراتيجيات لقطاعات اقتصادية واعدة، بل تكشف الحجاب عن خلل في النظام التعليمي وتفقد ثقة المواطنين في مخرجات المنظومة التعليمية حتى أصبحت الجامعة المغربية منتجاً للبطالة، وتفتح نقاشاً واسعاً بخصوص كفاءة مؤسسات التعليم ومدى ملاءمتها سوق الشغل، فطموحات ومؤهلات عدد كبير من الشباب غير متطابقة مع إمكانيات التشغيل ومتطلبات المقاولات والشركات، جدوى بعض التخصصات العلمية وعلاقة الشهادة العلمية بالأجور.
في هذا الصدد، يضطر العديد من الشباب المغربي من الحاصلين على الشهادات العليا للقيام بأعمال لا تتناسب مع مؤهلاتهم العلمية ومحصلتهم المعرفية، ويشتغلون في كثير من الأحيان بأجور بخسة وغير مستقرة، كما هو شأن عزيز وهو شاب في الثلاثين من عمره يقطن في مدينة الرباط؛ حيث حصل منذ ست سنوات على ماجستير في علم الاجتماع السياسي ولم يجد عملاً يناسب ما درسه.
يقول في حديثٍ إلى "جيل العربي الجديد": "من خلال الشهادة الجامعية التي حصلت عليها لم يكن أمامي سوى التوجه للعمل في القطاع العام التابع للدولة، فالقطاع الخاص لا يعير أي اهتمام لتخصصي الدراسي، ولقد اجتزت ما يقارب الأربعين مباراة لولوج إدارات عامة، وقمت بأكثر من مائة وعشرين اختباراً، خلال السنوات الماضية، لكن بدون جدوى. ومع كبر السن وتزايد المسؤولية الاجتماعية؛ اضطررت للقيام بأي عمل يمكن أن يدر عليّ دخلاً، الأمر الذي يكفينا انتظار مساعدة والدي وإخوتي، وبالفعل، فلقد أصبحت بائعاً متجولاً في الأسواق الشعبية للمدينة، أبيع الفواكه".
وفي سؤاله عن مدى تجاوبه مع عمله الجديد، يقول: "لقد مررت بفترة طويلة من البطالة كان لها أثر نفسي كبير علي وأحسست باحتياجي للاستقلالية المادية والابتعاد عن كل مناحي الانحراف الممكن أن تأتي عبر بوابة البطالة، فقررت أن أصبح بائعاً متجولاً بعربة لا تكلف كثيراً وتجعلني ألف، طوال الأسبوع، الأسواق المكتظة بالناس لكي أبيعهم الفواكه وأتمكن من الحصول على عائد يغطي حاجياتي الشخصية، لكنه يبقى بعيداً عن طموحاتي العملية في الحصول على وظيفة أقدر أن استثمر فيها ما تلقيته في الجامعة".
ما نستنتجه من هذه الحالة أن بعض التخصصات العلمية لا تجد فرصاً كثيرة في سوق الشغل، وتبقى الوظيفة العامة الملجأ الوحيد لعدد كبير من طالبي عمل، كما أن الاستمرار في البطالة لسنوات طويلة يدفع الشاب إلى تقديم تنازلات كثيرة في سبيل الحصول على عمل.
هذا ما يؤكده نبيل، وهو شاب في الرابعة والثلاثين من عمره حاصل على إجازة في القانون وماجيستر في اللغة الفرنسية ويشتغل حالياً سائق سيارة أجرة في مدينة الدار البيضاء.
يقول: "لم تكن أمامي خيارات، فقد وصلت مستوى دراسياً عالياً وطرقت العديد من الأبواب، لكنها ظلت مغلقة، عدا بعض التجارب المحدودة في شكل تدريب بإحدى شركات الاتصالات وعقد لسنة واحدة غير قابل للتجديد بأحد الفنادق بالدار البيضاء، كما أرغمتني ظروف عائلتي المادية الصعبة للاشتغال لتغطية مصاريف العيش في انتظار الفرج".
وعن تجربة العمل بسيارة الأجرة وما يعنيه بالفرج، يقول: "إن العمل في سيارة الأجرة أصبح صعباً جداً، فأنا سائق ولا أملك السيارة ومن يستفيد من الحصة الكبيرة من عائد السيارة هو صاحبها، وكي أصبح صاحب سيارة أجرة أصبحت مسألة مكلفة جداً وبمثابة استثمار حقيقي، لكنني أحصل على مورد مالي أحاول جاهداً أن أوفر منه بغرض الهجرة لكندا؛ حيث أريد أن أستقر وأكون مستقبلي في بلد يعترف ويقدر الكفاءات العلمية".
على هذا النحو، يجد الشباب المغربي نفسه أمام انسداد في سوق الشغل يفتح الباب على مصراعيه لهجرة حاشدة في التاريخ وفي الجغرافيا. فبين من يفضل عبور البحار بحثاً عن ملاذ يؤمن له مستقبلاً زاهراً، ويتيح له فرصة لتحسين المعارف وصقل المواهب، وبين من يهاجرون تاريخياً فراراً من اليأس والبؤس قصد الخلاص في الآخرة، بعد أن أصبحت الدنيا جحيماً في أعينهم، فيتجهون نحو التطرف الديني والإرهاب.
ويذكر أن التقرير الأخير للوكالة الأوروبية المكلفة مراقبةَ حدود دول الاتحاد الأوروبي "فرونتكس" يسجل أن عدد المغاربة الذين حاولوا الهجرة "غير الشرعية" خلال السنة الماضية بلغ أكثر من 26 ألف شخص، من أصل 107 آلاف مهاجر سري من العالم، وبذلك احتل المغرب الرتبة الثانية بعد سورية في تصنيف الدول التي أراد مواطنوها إدراك العبور إلى منطقة اليورو بطريقة مخالفة للقانون.
وجاء بحث استقصائي حديث لمنظمة "غالوب" أن واحداً من أصل ثلاثة شباب مغاربة يرغب في الهجرة إلى الخارج، أو يخطط لها بسبب التوقعات السيئة أو ضعف الفرص المتاحة، علماً أن الرغبة في الهجرة تزداد مع المستوى التعليمي للشباب، أي أن 86% من الكفاءات الشبابية المغربية ترغب في العمل خارج البلاد، بل وممارسة السياسة خارج الديار. ومما يلاحظ في هذا الشأن أن هجرة الأدمغة المغربية وصلت نسبة 18.5%، ليحتل المغرب بذلك الصف الثالث عالمياً في مجال تصدير العقول، بعد مالطا وتايوان.
على الجانب الآخر من الهجرة، فقد أوردت تقارير إعلامية أن المغاربة يأتون في المرتبة الثانية من حيث الالتحاق بالتنظيمات الإرهابية، كـ "داعش"، ومن على شاكلته، وأن من بين الحوافز التي تدفع الشباب المغربي للانضمام لهذه المجموعات المقاتلة بعد القناعة التطرفية والتكفيرية، هي الرواتب السخية التي يحصلون عليها. وفي هذا النطاق، نحن لا نرجع هذه المظاهر إلى عدم حصول الشباب على فرص عمل تناسبهم، لكن يبقى الإقصاء والبطالة عاملين من عوامل هذه السيولة في الهجرة.
إن بطالة الشباب الحاصل على الشهادات العليا هي دليل فشل مجموعة من السياسات العامة، وهدر هذه الطاقات إما في الهجرة أو الانحراف، هو دليل عجز على احتواء الشباب المغربي؛ ما يستوجب وجود مقاربة متكاملة الأركان تعمل على إحداث إصلاح عميق لنظام التعليم والتكوين وجعله أكثر ملاءمة مع سوق الشغل، القيام بتغيير النموذج الاقتصادي وجعله موجهاً نحو النمو المنتج للمداخيل والخالق لفرص الشغل عبر جذب الاستثمارات والتشجيع على المبادرات الحرة وريادة الأعمال، كما يستلزم الأمر ضبط التوزيع الفئوي والجغرافي للشغل عبر تحقيق تكافؤ الفرص في الحصول على الشغل عبر المساواة بين الرجل والمرأة والحد من الوساطة والزبونية ثم تحرير الطاقات المحلية بكل جهات البلد والقطع مع التفاوت الاقتصادي بين المجال الحضري والقروي وبين المراكز والجهات.