"لو كنت في سورية، لما كان هذا خياري"
جملة اعتدنا أن نسمعها من الفتيات اللواتي نقابلهن، ممن حرمن من ترف التفكير في ارتداء ثوب الزفاف الأبيض، أو شهر العسل، أو حتى السكن في شقة منفردة، على أضعف تقدير.
كانت الفتيات في مدينتي، إدلب، ما إن يبلغن سن الرابعة عشرة، حتى تبدأ طلبات الزواج تنهال على الأهالي، الذين في بعض الأحوال، يرفضون تزويج الفتيات في سن صغيرة، قبل أن تحصل على شهادة الثانوية العامة على الأقل. صحيح أن الفتاة كانت تفرح بالفكرة وتبدأ تتحدث لصديقاتها وترائبها عن العرسان الذين يتقدمون لها، من باب المباهاة، ولكن لفرحتها سبب، ألا وهو الحلم الذي يداعب مخيلتها بارتداء فستان الزفاف، أو الحلي الذهبية التي ستحصل عليها كمهر، و"نقوط" من الأهل والأحبة، وفي بعض الأحيان كانت هؤلاء الفتيات يستسلمن لخيار الزواج، بغية الحصول على هذه الامتيازات!
في مرات أخرى، كان الأهل هم من يتمسكون بخيار الزواج، خصوصاً إذا كان العريس "لقطة" بمعنى أنه "كامل الأوصاف"، بحسب تقديرات الأهل طبعاً، فتستسلم الفتاة لإرادة الأهل، ضاربة بأحلامها في الدراسة والعمل، عرض الحائط.
اللافت للنظر هو أن الفتيات في هذه الأيام هن من يتمسكن بخيار الزواج، ومع الكثير من التنازلات، وبالرغم من عدم اقتناع الأهل بفكرة الزواج تماماً.
ففي مدينة أنطاكيا التركية، حيث أقيم، صادفت عدة حالات لفتيات ينتمين إلى أسر متعلمة ومنفتحة، ولكنهن يتمسكن بخيار الزواج، قبل الحصول حتى على الشهادة الثانوية العامة، والمفاجئ في الأمر أنك حين تستمع إلى مسوّغاتهن تجدها غاية في الموضوعية، فلا تملك إلا أن تصمت حيال خيارهن هذا.
ندى (17 عاماً) إحدى الفتيات التي التقيتها في أنطاكيا، والتي حاولت ثنيها عن التسرّع في اتخاذ خيار خاطئ، ترى أن الثانوية العامة هنا أمر لا معنى له؛ فما من جهة تعترّف على الشهادة التي يمنحها الائتلاف، ولا هي قادرة على تقديم الامتحانات في سورية، لاعتبارات عدة، وتؤكد أن الفرص الضئيلة للدراسة في الجامعات التركية، من خلال المنح، تذهب عادة دون أن يدري بأمرها أحد.
وعليه، فالخيار الأنسب هو الزواج، وحين جادلتها في موضوع السن، وأن العريس يكبرها باثني عشر عاماً، ضحكت وقالت: "هذا أيعني أنني لن أصبح أرملة قبل الخمسين، أما إذا تزوجت من شاب قريب من عمري فسيعود للقتال في سورية، وقد أصبح أرملة قبل أن أبلغ العشرين.
لمى، التي تبلغ من العمر ستة عشر عاماً، فاجأتني برد مختلف، ولكن هذا الرد يكشف الفوارق الفلكية بين آلية تفكير أبناء هذا الجيل، وآلية تفكيرنا حين كنا في مثل أعمارهم. فقد اختارت لمى قبول عرض زواج من قبل أحد أقرباء والدتها المقيمين في إحدى دول الخليج، وعلى الرغم من اعتراض والديها الشديد، نظراً لكونها أصغر أخواتها، وأن كل أخواتها قد أتممن تحصيلهن العلمي؛ ترى أنها تنتمي إلى أسرة تتميز بسوية اجتماعية وثقافية، من الصعب أن تجد في الغربة من يتفهم خصوصية هذا الوضع، خصوصاً بعد أن هام السوريون كلهم على وجوههم في بلدان الاغتراب.
تجيبني لمى: "إذا تزوجته فسيكون شرطي هو أن يسمح لي بإتمام دراستي، لأنه أصلاً يريد لنفسه زوجة تكون مقبولة من قبل عائلته، وهذا لن يكون إلا إذا سمح لي بأن أحصل على شهادة جامعية مماثلة لشهادات أخواته وزوجة أخيه".
لمى، في سنّها هذه، اختارت الخيار السيئ لتجنب ما هو أسوأ، فالظروف التي يعيشها السوريون في كل مكان، تجعل من الصعب بمكان على أحد أن يتنبأ بما سيواجهه في اليوم التالي، لذلك فمن الحنكة اتخاذ القرار السليم في الوقت المناسب تماماً.
خيارات الزواج الخاطئة ليست حكراً على القاصرات اللواتي وعين على هذه الدنيا في ظروف غاية في الفوضى واللامنطق، فالبالغات الراشدات لم يكنّ أفضل حالاً في ظل تصاعد أعداد الأرامل والأيامى والثكالى، وازدياد نسب العنف الأسري وحالات الطلاق التعسفي، وغياب المؤسسة التشريعية التي تضمن للمرأة جزءاً من حقها، سواء في توثيق الواقعات أو الحصول على التعويض المادي والمعنوي، فالكثير من النساء اضطررن، تحت وطأة الحاجة المادية، إلى بيع أجسادهن تحت مسمى الزواج، بدلاً من ترك أبنائهن يموتون جوعاً، فكان خيار الزواج كزوجة ثالثة ورابعة في بعض المرات.
من السهل عليك في تركيا أن تجد رجلاً ستينياً يتأبط ذراع شابة سورية في العشرين، فهذه الفتاة الباحثة عن مساحة من الأمان، أو على ركن هادئ يؤويها بدل أن تنام في بيت تقطنه ثلاث عائلات في بعض الأحيان، ستجد في هذا الرجل خلاصاً مما تعانيه في بيتها.
نساء كثيرات وقعن فريسة لخيارات زواج خاطئة، بفعل التضليل والجهل والكذب الممارس عليهن من قبل بعض الرجال، وفي كثير من الأحيان يذهبن إلى هذه الخيارات الخاطئة بأرجلهن، ليس جهلاً وإنما بفعل الفاقة والعوز، فيما تنتظر كثيرات أن تحصل على وثيقة رسمية تثبت أنها أرملة أو مطلقة، كي تبدأ التفكير بالخطوة التالية.
(سورية / إسطنبول)