خصخصة الإنترنت
منذ نحو عشر سنوات، نلاحظ صعود تقنيات رقمية على الشبكة تملأ واقعنا اليومي: الاجتماعيّة التقليدية sociabilité، العمل، التسلية، التعليم؛ باختصار، مجموع أنشطتنا التي تنطوي على فِعل تواصلي –أي الغالبية العُظمى من حياتنا الاجتماعية- يجري استعمارها شيئًا فشيئًا عن طريق هذه الوسائل الرقمية. أصبحت الأجهزة، وشبكات التواصل، والخدمات الإلكترونية هي العوامل المُساعدة المُفيدة، ولكن أيضًا المُجتاحة، لحياتنا الشخصية والمهنية، وتعبيرنا عن رأينا على الإنترنت.
كل ذلك يحدث في ظلّ اقتصاد مُعَولَم، يفتقد إلى الضوابط، ويشجّع على أقصى درجات تركيز الموارد. نحن إذن بعيدون عن الوضع الأمثل الذي طالما امتدحته وسائل الإعلام، هذا الوضع الحاضر بصفةِ خاصّة في خطاب البزوغ المُفتَرَض لـ "ويب 2.0 Web 2.0 ". على العكس، في ظل السنوات الأخيرة تحوّل الإنترنت إلى ساحة مُنافسة عنيفة بين المجموعات الاجتماعية، والمؤسّسات السياسية، والشركات متعدّدة الجنسيات من أجل توزيع السُلطة على قنوات التواصل الرقمية. وبالتالي، فالشكل الحالي للإنترنت لا يدين بشيء إلى الصفات التقنية المُفترَض أنها نابعة من داخله نفسه، بل هو نتاج هذه العلاقات المعقّدة بين الجهات المذكورة أعلاه والتي لديها مصالح اقتصادية وسياسية قويّة وتنافس بعضها.
في هذا السياق، تحوّلت بعض الشركات متعدّدة الجنسيات –التي كانت فيما مضى شركات ناشئة startups لطيفة- في غضون سنوات إلى أطراف فاعلة في نظام احتكار القلة oligopole، الذي يحكُم القلب المعرفي والإخباري لمجتمعاتنا إلى درجة نحت اختصار خاص بهم : (غافام GAFAM) (غوغل، آبل، فيسبوك، آمازون، مايكروسوفت، وهي عمالقة الإنترنت).
هذه الجهات المُحتَكِرة تسيطر على مجالات رقمية واسعة للغاية، بفضل قوّتها السوقية المستفحلة إلى جانب نفوذها المالي، وحيازتها لحقوق الملكية الفكرية والصناعية التي تتوسّع، وتتعزز قوتها بحيث تُفضي، أحيانًا، إلى "حروب براءات اختراع".
يمكننا بناءً على كل ما تقدّم أن نضع الفرضية التالية: الإنترنت حاليًا في طور الخصخصة، في طور "التسييج"، في إطار تركيز أكبر للموارد الفكرية والمعلوماتية بين أيادي ما يدعوه (أوغو باغانو Ugo Pagano) "رأس المال الفكري الاحتكاري".
وخلافًا للخطاب النيوليبرالي الذي يجعل من "المُنافسة الحرّة والشريفة" النموذج المثالي للرأسمالية، فإننا نعرف –على الأقل من أعمال فرنان برودل Fernand Braudel- أن الرأسمالية مقترنة بإستراتيجيات الفاعلين الذين يواصلون، بشكل جامح، خلق مراكزهم الاحتكارية والحفاظ عليها.
الإنترنت أصبحت سوقًا تحتكره القلّة
أهدفُ إلى الإسهام في تأسيس إطار نظري وتحليلي للإنترنت المُعاصرة من أجل "كشف مصادر الهيمنة، وجعلها واضحة جليّة، وغير مقبولة، أيّ التنديد بنظام اجتماعي ما من أجل الانعتاق منه".
إنني أرى أن الإنترنت المُعاصِرة تسهِم في إنتاج بنية فوقية مُحَدّدة تاريخيًا -تُطابق مرحلة الرأسمالية المتأخّرة- كما أنها تجسّد علاقات الإنتاج الخاصّة التي تميّز هذه المرحلة الرأسمالية المتأخّرة.
إن احتكار القلّة الذي نراه على الإنترنت، هو إذن أداة فعّالة لخدمة الأيديولوجية السائدة، كما أنه معمل تُختَبَر فيه الأنماط الأكثر تقدمًا لاستخراج فائض القيمة. وغنّي عن القول إن الإنترنت لا يجب أن تُختَزَل في غوغل، آبل، فيسبوك، آمازون أو مايكروسوفت. ولكن هذه الأطراف الفاعلة تشكّل، رغم كل شيء، قوى هائلة، تتحكّم بنسبة كبيرة في طريقة عمل الإنترنت الراهنة، كما أنها تُهَدِد تطوّرها. من الضروريّ إذن وضع هذه الأطراف في صميم تحليلي. ولا يتعلّق الأمر بتناول هذه الشركات مترامية الأطراف بوصفها نجاحات خارقة، ولكن، على العكس، بدراستها بوصفها وجوهًا رمزيّة، أنتجها نظام رأسمالي جديد، تُسهِم هي بدورها في صوغه، وشرعنته، وتعزيز دعائمه.
أوّل أمر مشترك هو أن غوغل، فيسبوك، أمازون، آبل، مايكروسوفت، والبقية إنما استفادت من عملية تسليع الإنترنت الجارية منذ منتصف التسعينيات. وفي حقيقة الأمر، لم تُصَمَم الإنترنت الأصلية (الأولى) للاستخدام التجاري. على العكس، كان المنطق السائد في بداياتها هو المنفعة العامة، بتمويل من الدولة. ولكن تدريجيًا صيغت نظرية تتقاطع مع النيوليبرالية الاقتصادية ومع نظرية الحتمية التكنولوجية، وشرعنت السوق بوصفه المكان الوحيد القادر على إحداث الابتكار في الحوسبة المتّصلة بالإنترنت.
تُرجِمَت هذه الصياغة النظرية، في المجال السياسي، إلى عملية رفع القيود والضوابط عن الاتصالات، وإلى إرساء أوّل الشبكات التجارية في الثمانينيات. ولكن فترة التسعينيات هي التي شهدت التسليع الفِعلي للإنترنت، حيث وُضع هذا الهدف في الأجندة السياسية، ثم اتخذ شكل العملية القانونية والتقنية التي ترمي إلى فتح مجال اقتصادي جديد لمبادرات القطاع الخاص.
هذه الفترة –التي انتهت بانهيار فقاعة الإنترنت في مطلع القرن الـ 21- شهدت اجتياحًا تدريجيًا من طرف الثقافة المالية لأراضي الفضاء الإلكتروني Cyberespace، وقد كان هذا الفضاء من قَبل غريبًا على هذه الثقافة. وشهدت هذه اللحظة وضع إستراتيجيات صناعية ترمي، بشكل صريح، إلى جعل الإنترنت سوقًا يسود فيه نظام احتكار القلّة.
مكاسب خارقة
إن القدرات المالية التي تمتلكها الأطراف المُحتَكِرة للسيطرة على أية "محاولات انقلابية" من طرف واضعي الضوابط هائلة بشكل لا يمكن تصوره. إن إستراتيجيات التوافق (المصالح) التي وُضِعَت في صناعات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات قد أفضت، منذ عشرين عامًا، إلى صفقات مالية ضخمة. موّل العديد من المستثمرين على مستوى العالم -وقد جذبتهم الأرباح المرتفعة- شركات (وادي السيليكون Silicon Valley) على نطاق واسع. وبناءً عليه، أصبح رضا هؤلاء المستثمرين (أصحاب الأسهم) هو الأولوية لدى هذه الشركات التي لم تعُد تبالي بأي اعتبار آخر سواه، بما في ذلك مصالح مُستخدمي الإنترنت. هكذا، في غضون 11 عامًا، تضاعفت قيمة سهم غوغل إلى أكثر من 15 ضعفا، وتضاعف سهم فيسبوك إلى 3 أضعاف منذ 2012.
ما هو السبب إذن وراء هذا التدفّق الهائل من الاستثمارات؟ الإجابة هي الأرباح المرتفعة جدًا لأطراف احتكار القلة للإنترنت، الأمر الذي لا يستطيع أحد أن ينافسهم عليه سوى حفنة من الشركات متعددة الجنسيات العاملة في مجال صناعة الأدوية وفي القطاع المالي.
وإذا عرفنا أن إيرادات الـ "غافام" ترتفع باستمرار منذ عدة سنوات، إذ ارتفعت من إجمالي 192.7 مليار دولار في 2010 إلى 526 مليارا في 2015، وذلك في أوج الأزمة الاقتصادية، فإن هوامشهم الربحيّة –باستثناء أمازون- تتخطّى أيضًا الـ 20% باستمرار، وذلك أمرُ استثنائي. لأنه في 2015، كان متوسط الهامش الربحي لمؤشر "إس آند بي 500 S&P 500" (المُعادِل لمؤشر كاك 40 CAC 40 في فرنسا)، وهو مكوّن من أكبر 500 شركة مُدرجة في البورصة في أميركا، قد استقر عند 10.5%، وهو رقم قياسي منذ عدة سنوات.
في هذا السياق، جرت عملية التفكير، مثلًا، في إعادة هيكلة غوغل، المُعلَنة في صيف 2015، بإنشاء الشركة القابضة المُدرجة في البورصة (ألفابت Alphabet)، لكي تتحكم في جلّ الأنشطة المختلفة للمجموعة. إعادة الهيكلة تلك كانت بهدف إرضاء المُستَثمرين، ومن خلالها تخطّت القيمة السوقية لـ ألفابت حاجز الـ 500 مليار دولار لأوّل مرّة. كما أن شركة (ماونتن فيو Mountain View) أصبحت ثاني أغلى شركة في العالم بعد آبل، حيث تخطّت قيمتها السوقية 640 مليار دولار في الوقت نفسه.
هذه القدرات المالية الضخمة توفّر لأطراف احتكار القلة سلطةً وقوةً سوقية غير متكافئة مقارنةً بباقي الأطراف. هذه السُلطة تتيح لهم إمكانية تشييد حواجز مرتفعة للدخول في مجالات أنشطتهم (أيّ تصعيب الأمور)، فهم يستثمرون بكثافة في (البحث والتطوير R&D)، والبنى التحتية، ممّا يمدّهم بتقدّم تكنولوجي عن الآخرين، كما أنهم يشترون عددًا كبيرًا من المُنافسين ومن الشركات الناشئة التي تتمتّع بإمكانات نمو كبيرة.
الاستغلال المُفرِط للعاملين
إن أطراف احتكار القلّة على الإنترنت يستغلّون، إلى أقصى درجة، الإمكانات التي توفّرها عولمة الاقتصاد في تنظيم عملية إنتاجهم. فنراهم –جميعًا- يمارسون، بدرجات مختلفة، نظام الاستعانة بمصادر خارجية في بلاد ذات تكلفة منخفضة. المثال الأشهر هو آبل، أكبر بائع أدوات اتصالات في العالم، ومع ذلك لا تملك مصنعًا واحدًا.
إن لجوء احتكار القلّة إلى العمل المُهين وغير الآمن من أجل تخفيض تكاليف الإنتاج والتشغيل لم يتوقّف عند الاستعانة بمصادر خارجية في بلاد الجنوب وحسب، بل الأمر شائع أيضًا في أوروبا وأميركا الشمالية. فعلى سبيل المثال، دائمًا ما تُنتَقَد ثقافة شركة أمازون، لأنها تشجّع على المنافسة المحمومة، والمراقبة المتبادلة (بين عامليها ورؤسائها)، والتدخّل المُفرِط للإدارة في الحياة الشخصية لكادرات الشركة، وذلك عن طريق الاستدعاء الدائم لهم.
وفي حقيقة الأمر، فإن مُمارسات أمازون تلك التي ندّدت بها النقابات الأوروبية، شائعة أيضًا بين باقي أطراف الـ "غافام "تجاه كل العاملين من ذوي المهارات المحدودة، إذ تجمّع سائقو Loop Transportation (المتعهّدة بخطوط سير الحافلات الخاصّة لعاملي فيسبوك) في نوفمبر/تشرين الثاني 2014 أمام مقرّ الشركة في مينلو بارك Menlo Park للاحتجاج على ظروف عملهم المتدنّية مثل ساعات العمل الطويلة والأجور المنخفضة للغاية.
التحكّم في الأخبار، الرسائل، والشبكات الاجتماعية
إن الوسيلتين الأكثر رمزيةً لـ إعلام الوساطة هما محرّك بحث غوغل وَآخر أخبار الفيسبوك Newsfeed. يستند الاثنان إلى خوارزميات تستغل، بطريقة صناعية، "التجميع الآلي للأحكام غير المؤكّدة، المتناثرة، والعشوائية من مجموع مُستخدمي الإنترنت". بالنسبة لـ (رتبة الصفحة PageRank) الخاصّة بـ غوغل، فهذه الأحكام تأخذ شكل الوصلات الإلكترونية hypertexts التي تربط صفحات الإنترنت ببعضها البعض. وبفضل هذه العملية الحسابية، يستمرّ محرّك بحث غوغل في العمل، يُضاف إليه إشارات أخرى هي نتيجة نشاط أعداد ضخمة جدًا من البشر والحواسيب على الإنترنت، مثل درجة مُشاركة خبر ما على شبكات التواصل الاجتماعي وغيرها. وإلى جانب ذلك، يقدّم غوغل وسائل عديدة متخصّصة من إعلام الوساطة مثل (غوغل أخبار، غوغل تسوّق، الباحث العلمي لغوغل، متجر غوغل إلخ).
أمّا فيسبوك، فإنه يعتمد في ترتيب الأخبار التي تظهر على صفحة المُستخدِم على علاقات مترابطة متعدّدة للغاية مثل (الإعجابات likes)، وعدد المشاركات، والتعليقات، وطبيعة العلاقة بين المُستخدِمين، وأيضًا جودة المحتوى (أن يكون شعبيًا أو جديدًا... إلخ).
يتعلّق الأمر، في الحالتين، بتحديد قياسات تهدف إلى وصف الأشكال العلائقية للمجال الاجتماعي، بهدف ترتيب وتجميع المعلومات في مجموعات متسقة تُفضي في النهاية إلى "تجربة مُستَخدِم" فعّالة ورائعة، وفي الوقت نفسه يُفضي كل ذلك إلى مُضاعفة أرباح الجهات المالكة. هذه الأخيرة أرست أيضًا "هيكلًا تنظيميًا للرؤية"، وهو نتاج برمجيات تحدّد ما يُمكن أن يراه المُستخدِم وما لا يمكنه من بين الخيارات الكثيرة أمامه. هذا الهيكل يفرض بالطبع عددًا من القيود أثناء عملية الاستخدام.
الأمر لا يقتصر على فيسبوك وَغوغل، بل يمتدّ إلى كل أطراف احتكار القلة التي تؤسس جزءًا كبيرًا من نشاطها على المنطق نفسه: نظام الاقتراحات لأمازون، اختيار وترتيب تطبيقات IOS لآبل، محرّك البحث لمايكروسوفت.
إن أكثر ثلاث خدمات رائجة الآن في مجال الاتصالات البينية (بين الأفراد أو المجموعات) هي البريد الإلكتروني، والمراسلة الفورية، وخدمات الشبكات الاجتماعية. تهيمن أطراف احتكار القلة على القطاعات الثلاثة هذه. سوق البريد الإلكتروني تتشارك فيه آبل، وَغوغل، وَمايكروسوفت؛ فهذه الشركات الثلاث تجمع في حوزتها 85% من هذه السوق.
أمّا قطاع المراسلة الفورية، فبعد أن كانت إم إس إن ماسنجر التابعة لمايكروسوفت هي المهيمنة، أصبح فيسبوك هو المتسيّد عن طريق تطبيقيه الرئيسين "فيسبوك ماسنجر" 700 مليون مستخدم نشط شهريًا في 2015 وَ"واتساب" 900 مليون مستخدم، بعد أن اشتراه مارك زوكربرغ في فبراير/ شباط 2014 بقيمة 19 مليار دولار، إذ لم يكن سوى شركة ناشئة لا يتخطّى عدد عامليها الـ 55 شخصًا.
أصبحت المراسلة الفورية إحدى أسس أي هاتف ذكي. ولهذا السبب، اشترت مايكروسوفت سكايب Skype في 2011 لدمجه مع إم إس إن ماسنجر. سكايب يحتل اليوم المرتبة الخامسة في قائمة تطبيقات المراسلة الفورية الأكثر شعبية، إذ يستخدمه 300 مليون مستخدم نشط شهريًا.
كما يُبسط فيسبوك سيطرته على سوق شبكات التواصل الاجتماعية. فموقع فيسبوك هو الأشهر في العالم، إذ يستخدمة أكثر من 1.4 مليار مستخدم نشط شهريًا في 2015، يتبعه إنستاغرام (400 مليون) الذي اشتراه فيسبوك في 2012. ولكن كيو زون Qzone الصيني (مِلك تنسنت Tencent) هو الوحيد الذي يتخطّى إنستاغرام. هذا الأخير يسبق تويتر (300 مليون)، وَسناب شات (200 مليون). ومنذ أن اشترت مايكروسوفت في يونيو/ حزيران 2016 موقع LinkedIn، نجد أن تويتر وَسناب شات هما الشبكتان الاجتماعيتان الرقميتان الوحيدتان، ذات الشهرة العالمية، اللتان لا تنتميان إلى الـ "غافام".
تعددية الوصول إلى المعلومات مُهَدَدة
إن محرّكات البحث هي التي تتكفّل بمُهمة إيصال المعلومات والمحتويات على الإنترنت للمُستَخدِم. وفي هذا المجال تُهيمن غوغل دون منازع بحصة في السوق العالمية تتخطّى الـ 70%، وفي أوروبا تتخطّى الـ 90%. إن مُنافسها البارز هو مايكروسوفت (عن طريق بينغ Bing، وَياهو Yahoo) ولكنهما لا يستحوذان معًا سوى على 20% من السوق العالمية.
كما تسيطر غوغل على سوق الفيديوهات على الإنترنت، إذ هناك أكثر من مليار مستخدِم لـ يوتيوب في 2015 إلى جانب 3 مليارات مشاهدات في العام نفسه. أبرز مُنافسي يوتيوب في هذا المجال هو فيسبوك الذي سجّل 2 مليار مشاهدة، ثم تليه بمسافة بعيدة أطراف صغيرة مثل "ديلي موشن Dailymotion" وَ"فيميو Vimeo". هذه السوق إستراتيجية إلى أبعد حدّ لأنها تنطوي على أحد أكثر القطاعات الإعلانية ديناميكية على الإنترنت.
فيما يخصّ مجال الأخبار، نجد أن غوغل وَفيسبوك هما أبرز طرفين يضمنان أكبر حركة مرور (ترافيك trafic) لمواقع الأخبار، بواقع 75% في المتوسط في فرنسا وأميركا. وهكذا يصبحان لا غنى عنهما بالنسبة لمحرّري المواقع الصحفية الذين يُجبَرون على الامتثال لمتطلباتهما الاقتصادية ولقواعدهما التقنية.
منذ بداياتها في الثمانينيات، كانت الأخبار على الإنترنت، التي تبثّها الصحف، تشكّل إحدى أشهر الخدمات على الإنترنت بالنسبة للمُستخدِمين. وقد تعزّز هذا الاتجاه مع نفوذ الويب المتزايد مع تعديل ميزان القوى: في بداية القرن الحالي، قرّر غوغل فرض قانونه على محرّري الصحف نظرًا لسيطرته القوية على "البحث search" الذي يقوم به المُستخدمِون.
غير أن تعاظم نفوذ الإنترنت على الموبايل قد غيّر الأمور. فاليوم، يجذب عمل الصحافيين المحترفين عددًا كبيرًا من الجمهور. وإلى جانب غوغل، دخلت بعض الأطراف القليلة المشهد لتتحكّم في قنوات توزيع المحتويات على الموبايل، مثل آبل، تويتر، سناب شات، وَفيسبوك بشكل خاص. وفي هذا السياق، نلاحظ منذ عدّة أشهر مزايدة على جَعل الوصول إلى هذه الأخبار أسهل وأبسط تقنيًا بل وأسرع من أي وقت مضى على الهواتف الذكية. هذه التعديلات تُتيح لمحرّري الصحف خيارًا أكبر من قنوات التوزيع، كما أنها تُشعل المُنافسة بين مختلف المنصّات. ولكنها في الوقت نفسه تعزّز زخم احتكار القلة على إنترنت الموبايل، حيث تركيز الجمهور والاستخدام أكثر بكثير من الويب.
إن سوق التحميل المدفوع للمحتوى السمعي البصري تهيمن عليه آبل (عن طريق آي تيونز Itunes)، وَأمازون، ومتجر غوغل. تضم هذه المنّصات الثلاث أكبر عدد مستخدمين وعدد تحميلات وأكبر عدد مُمكِن من المحتويات. في 2015، كانت آي تيونز تُتيح 28 مليون مقطع موسيقي، في مُقابل 20 مليونا عند أمازون؛ كما أتاحت آي تيونز 45 ألف فيلم طويل، في مُقابل 52 ألفا عند أمازون و85 ألف حلقة من مسلسلات التليفزيون.
تسيطر آبل سيطرةً كبيرة على شراء الموسيقى على الإنترنت، ففي 2015 سجّلت نحو 52% من إجمالي المبيعات الموسيقية على الإنترنت، في مُقابل 19% لأمازون، و11% لغوغل، والباقي تشاركت فيه أطراف صغيرة الحجم. هؤلاء العمالقة الثلاثة دخلوا مؤخرًا في سوق البث الموسيقي الإلكتروني streaming مثل خدمات آبل ميوزك، أمازون برايم ميوزيك Amazon Prime Music، متجر غوغل، لمُنافسة المتصدّر العالمي سبوتيفاي Spotify، الذي يضم أكثر من 70 مليون مُستخدِم، يعود الفضل في ذلك، جزئيًا، إلى شراكة حصرية ومُتنازع عليها مع فيسبوك.
سوق الكتب الإلكترونية الذي تسيطر عليه أمازون، التي تقوم بثلاثة أرباع عمليات البيع، وهي تفرض على المُستخدِم نظام توزيع مُدمَجاً ومتكاملاً كليةً : القارئ كندل ،Kindle لا يتعرّف سوى على الامتداد AZW، وهو متاح حصريًا على منصّة أمازون. هذا التكامُل يحوّل لأمازون زبائنها إلى أسرى، كما أنها تتمكّن من التفاوض مع الناشرين من موقع قوة. الطرف المستقلّ الوحيد الذي يمكنه مُنافسة أمازون، فضلًا عن iBooks التابع لآبل ومتجر غوغل، هو الشركة الكندية (كوبو Kobo).
في كل هذه القطاعات، يمتلك أطراف احتكار القلّة "خزّانات" ضخمة من المُستَهلكين، إلى جانب اتفاقات معقودة مع المُنتجين ومحرّري المحتويات عادةً ما تصب في صالحهم. لديهم إمكانية تنظيم هذه الأسواق بما يتناسب ومصالحهم، بالإضافة إلى تعزيز مواقع الأطراف الأكثر قوة لصناعات الثقافة والتواصل والذين يعقدون معهم شراكات متميّزة. وبناءً على ذلك، وعلى خلاف الخطاب الذي يبثّه ممثلوهم، فإن احتكار القلة على الإنترنت يُهمِل التنوّع والتعددية، ويعمل بشكل أكثر على التسليع وتحويل الثقافة والمعلومات على الإنترنت إلى صناعة، إلى جانب تعزيز سيطرته عن طريق مالكي رأس المال.
بيانات ضخمة تدّر أرباحًا
إن كل وسائل التعقّب هذه هي نتاج ظهور أسواق تتوفّر على كميات مهولة من المعلومات عن صور مُستخدِمي الإنترنت ومعلوماتهم الشخصية وعاداتهم، ويتمّ تبادل وبيع هذه البيانات بشكل مستمرّ عن طريق شركات متخصّصة في ذلك الأمر. إن أغلب هذه الكيانات يجهلها عموم الجمهور، مثل BlueKai التي تمتلك قاعدة بيانات لـ مليار صفحة مُستهلِك تضم كل واحدة نحو 50 من المعطيات (بيانات اجتماعية ديموغرافية، أبرز اهتماماته... إلخ)، أو مثل Datalogix التي تمتلك معلومات عن صفقات تجارية تمّت (مَن اشترى ماذا، وكيف اشتراه، ومتى... إلخ) بقيمة 2 تريليون دولار. إن شراء عملاق البرمجيات (أوراكل Oracle) لهاتين المؤسّستين (400 مليون دولار ثمن BlueKai، و1.4 مليار دولار ثمن Datalogix) يوضّح لنا الأهمية الإستراتيجية التي تحظى بها البيانات المُجَمّعة عن مُستخدمي الإنترنت في عملية التنافُس العالمية.
إن أطراف احتكار القلّة على الإنترنت هم بكُل تأكيد أحد زعماء سوق التعقّب. في 2016، حلّلت دراسة أخرى عيّنة تتكوّن من مليون موقع، وقد أوضحت أن أشهر خمس وسائل للتعقّب تنتمي كلها لغوغل. بالإضافة إلى فيسبوك، تضمّ Datalogix من بين زبائنها غوغل، تويتر، وَمايكروسوفت. بينما Acxiom هي شريكة إي باي Ebay، ياهو، آدوبي، وَآي بي إم IBM.
نُلاحظ وجود التقاء إستراتيجي يبين، من جانب، وسطاء المعطيات الذين يملكون "حقولاً" من البيانات الضخمة big data حول عادات المُستهلِكين، ويبيّن، من جانب آخر، أطراف احتكار القلة على الإنترنت الذين يعرفون جيّدًا بيانات وصور وعادات مئات الملايين من مستخدمي الإنترنت.
إن تعميم الإنترنت وتعاظم قُدرات تجميع البيانات الضخمة من هذا النوع ومُعالجتها أصبح يُتيح لهم، أكثر من أي وقتِ مضى، إمكانية التبادُل المكّثف لهذه البيانات واستغلالها فيما بينهم.
(كتابة: نيكوس سميرنايوس)