أعقلُنا مجنوننا

01 مارس 2020
+ الخط -
كان على المحققين والقضاة أن يتيقنوا، منذ البداية، أنهم يحققون مع/ ويحاكمون رجلًا يعاني من مرض "الفصام"، فالمؤشرات واضحة لا تحتمل التأويل والتكهنات، ولا حتى عرض المتهم على لجنة طبية، وإلا فأي "عاقل" ذلك الذي يجازف باختراق الحدود، ليضرم النار في معسكر إسرائيلي؟
عمومًا، لا بأس من عرض وقائع القضية علينا نحن "العقلاء"، من باب العبرة، ولكي نحافظ على سلامة عقولنا من مرض "الفصام" الذي في وسعه أن يزجّنا في مستشفى المجانين، كما حدث مع ذلك "المفصوم" الذي فقد عقله، رسميًّا، بشهادة لجنة خبراء معترف بأهليتها.
في الوقائع، تذكر محاضر التحقيق أن المتهم قرّر التسلل من إحدى الدول العربية، لاستهداف نقطة عسكرية إسرائيلية باستخدام قنابل حارقة مصنّعة يدويًّا. وخلال ذلك، تم القبض عليه. وبعد التحقيق معه، وإخضاعه للقضاء، وجدت المحكمة أن "المتهم يعاني من مرضٍ عقلي، وهو مرض الفصام، حيث كان مصابا بانتكاسة مرضية، وقد وقعت الواقعة تحت تأثير أعراض المرض، وهي الأوهام والهلاوس، والتي تفقده القدرة على إدراك أقواله وأفعاله"، ومن ثمّ أعلنت المحكمة "عدم مسؤولية المتهم، وحجزه في مستشفى الأمراض العقلية والنفسية إلى أن يثبت بتقرير لجنة طبية من ذوي الاختصاص تشافيه من أعراض المرض شفاء اجتماعيا، وأنه لم يعد خطرًا على السلامة العامة".
تنتهي الوقائع الرسمية هنا، غير أن ثمّة وقائع أخرى ستجري داخل المصحّ العقلي، لاحقًا، حيث سيقضي "المفصوم" ردحًا من الزمن لا يعلم غير الله خاتمته، والراسخين في علم أمراض الفصام؛ فأغلب الظن أنه سيخضع إلى جلساتٍ مطولةٍ من الفحوصات الدورية، يُسأل فيها سؤالًا واحدًا: "هل إسرائيل دولة عدوة أم صديقة؟"، فإن تمسّك المريض بمعلوماته "الانفصامية" ذاتها، فسيدوّن الأطباء توصياتهم المتكرّرة: "حالة المريض العقلية لا تشهد تحسّنًا، نوصي بتمديد حجزه في المصحّ العقليّ فترة أخرى".
أما "العلاج" الذي أوصت به المحكمة من دون أن تفصح عنه صراحة، فسيكون أشبه بجلسات "غسيل دماغ"؛ لإعادة تأهيل المريض على واقع أن "كل من يفكّر بمحاربة إسرائيل هو شخص مفصوم أو معتوه أو مجنون"، وأن عودة العقل إليه مشروطة بالإقلاع عن هذه الهلاوس، لإدراجه لاحقًا في خانة العقلاء الذين يستحقون العيش خارج أسوار المصحّات النفسية.
والحال أن فكرة "المصحّ" ذاتها ليست جديدة في الحياة العربية المعاصرة، القائمة على لجم العقل واحتلاله، وتوجيهه حيث تشاء السلطة، منذ مطلع وعيه، ولا حاجة للقول إنه توجيهٌ مرسوم باتجاه تقديس الطغاة، وعبادتهم، وتنزيههم عن الأخطاء والآثام، والخضوع لسلطانهم وإرادتهم. ومن يغامر بمناوأتهم ومعارضتهم، سيتهم بـ"الجنون"، وسيزجّ في "مصحّات" الأجهزة الأمنية والمخابراتيّة، لتأهيله على طريق "العقل" و"الصواب"، على غرار "العقلاء" من عامّة الشعب، المؤمنين بتعاليم طغاتهم وألواحهم المقدّسة، وسيخضعون، أيضًا، لاختباراتٍ مطوّلةٍ داخل "المصحّ"؛ للتأكد من "شفائهم" التام، قبل المجازفة بإطلاق سراحهم، وإلا فإن الإقامة في "المصحّ" قد تطول أزيد من أعمارهم.
في المقابل، يدخل حظيرة "العقلاء" أشخاصٌ لا تقودهم عقولهم إلا إلى الخضوع لشروط الحظائر، وانتظار السكين، على قاعدة أن "الموت مع الجماعة رحمة"، ثم إلى مصافحة الجنود الصهاينة، والاعتراف بحق إسرائيل في "استعادة أرضها من براثن المحتلّين الفلسطينيين"، كما زعم عقلاءُ عربٌ حلّوا ضيوفًا على إسرائيل أخيرا.
عمومًا، لا نملك اليوم غير الترحّم على روح محمد عابد الجابري الذي كان أفرد مؤلّفًا خاصًّا عن "نقد العقل العربي"، غير أني على يقينٍ أن أجله لو أمهله إلى يومنا هذا لمزّقه قبل نشره؛ لأنه سيكتشف أن محنة جديدة غير مألوفة أصابت العقل العربي في صميم معاييره التي نشأ عليها. سيكتشف أن عليه أن يعاين عقلًا عربيًّا ممزّقا، يرى في العقل "جنونًا"، وفي "الجنون" عقلًا، وأنه لو قيّض للإنسان العربيّ ترف الاختيار يومًا؛ لاختار "الانفصام"، والإقامة في المصحّات العقلية عوضًا عن حياة تمجّد الطغاة، وتشدّ على يدي الغازي، وتزدري الضحية، وتبرّئ القاتل، وتدين القتيل، وسيكتشف أن في الوسع تلخيص محنة العقل العربي بعبارة واحدة: "أعقلنا مجنوننا".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.