28 يناير 2024
أميركا.. منتهى الحظ
لا أدري مَنْ حاكى مَنْ: السفارات الأميركية أم حانات الفنادق بشأن تخصيص "ساعة الحظ" التي يتاح فيها للرواد الاستفادة من حسمٍ يصل إلى نصف السعر على المشروبات الساخنة والباردة، غير أن ما يعنيني هنا هو ذلك الزمن المقتطع من التقويم السنوي الأميركي، الذي تتداعى فيه السفارات إلى الإعلان عن حلول "فترة الحظ"، للحصول على هجرةٍ دائمةٍ إلى الولايات المتحدة الأميركية، وهو الزمن الذي حل أوانه راهنًا، وفق السفارات ذاتها، وما على الباحثين عن الحظ غير اغتنام هذه "الساعة الذهبية"، للتقدّم بطلباتهم التي تتيح لهم الانخراط في "قرعة الحظ" المنشودة، ليحصلوا على حسمٍ يعادل، ربما، نصف الطريق الشاق للوصول إلى "بلاد الفرص" غير الضائعة بالتأكيد.
الحال أن أميركا منسجمة تمامًا مع فلسفة وجودها القائم أصلًا على "ضربة حظ" واتت مكتشفها كولومبس، ولأنها أدركت أنها لن تستطيع، بأي حال، صناعة تاريخ لهذا الوجود، يخلّصها من عقدة النقص هذه أمام دول العالم الأخرى التي تحظى بشرعية التاريخ، فقد عمدت إلى تحويل هذا النقص إلى مصدر قوة، عبر الاحتفاء بفكرة "الحظ" ذاته، ومن يزر أميركا يشعر بمغريات الحظ في كل مكان: في أوراق اليانصيب، واللوتري، وغيرهما، فضلًا عن تخصيص مدينة كاملة للحظ، هي مدينة لاس فيغاس الملأى بصالات القمار، والتي أزعم أنها العاصمة الحقيقية لأميركا؛ لأنها تلخص نهج بلاد "الأنكل سام" الذي تريد زرعه في أذهان العالم.
ما تنشده الفلسفة الأميركية هو إقناع شعوب العالم كله بأن "المحظوظ" هو من يصبح مواطنًا أميركيًّا. تلك هي قمة الحظ، بالطبع، لكن للحظ مراتب أخرى لمن لا يُسعفه حظه بالهجرة، فأدوات التفكير الأميركي أوجدت أخطبوطًا للحظ يمد أذرعه المتعدّدة خارج الولايات المتحدة، وسيكون محظوظًا، مثلًا، من طاولته الذراع الاقتصادية، فاقتنى سلعةً أميركية ما، وسيكون محظوظًا من تقرّر شركة أميركية عابرة للقارات أن تنشئ فرعًا لها في بلده، وسيكون محظوظًا من تطاوله الذراع العسكرية، فتحظى بلاده باحتضان قاعدةٍ أميركية، أو تزور ميناءه بارجة أميركية، أو يعقد حاكمه معاهدة عسكرية مع أميركا، بل إنه لشرفٌ كبيرٌ حتى أن يزور بلده مسؤول أميركي، أو حتى مواطن عاديّ يحمل الجنسية الأميركية.. وقد يستطيل الحظ بمن يحظى بـ"ضربةٍ" عسكرية أميركية؛ لأنها تمثل مقدمةً لاحتلال مقبل، كما حدث للعراق، فكل هذه "الضربات" تمائم لاستجلاب الحظ، أما أعظم تلك التمائم في منطقتنا فهو "إرضاء إسرائيل"؛ لأنها مجلبة للحظ الأميركي بالطبع.
قبالة ذلك، سيكون "عاثر الحظ" من يبقى في وطنه، وهذا هو الأخطر في مشروع الهجرة الأميركي، ففي مقابل أميركا هناك فناء خلفيّ يدعى العالم الآخر، لا يصلح إلا لطمر النفايات، في أحسن تقدير، ومن ثم تأتي هذه "الساعات الذهبية" فرصةً سانحةً ليس للخلاص من هذا الفناء فحسب، بل لترسيخ القناعة لدى قاطنيه بأنهم "عديمو الحظ"، وأنهم أدنى بمراتب عدة من سكان أميركا نفسها. والواقع أن أميركا تستغلّ في هذا الشأن، تحديدًا، أوضاع الحكم المزرية في العالم الثالث، التي تجعل من الأوطان مشانق خانقة حول رقاب شعوبها، فيبزغ الحظ، لا من الهجرة بحدّ ذاتها، بل بالخلاص من مشنقة الوطن، ثم ليترك المواطن معلقًا بين سؤالين: هل الحظ في الهجرة إلى أميركا أم بترك الوطن؟
عمومًا، يستفيد كثيرون من "ساعة الحظ" في الحانة الأميركية سنويًّا، ويتهافتون على الكؤوس المتاحة بنصف شقاء الأوطان التي تنعدم فيها شتى "ضربات الحظ"، ولا يبقى فيها غير "ضربات السياط". لست ألومهم، غير أني على قناعة، أيضًا، بأن المحظوظ هو من يحظى بشرف مقارعة الهيمنة الأميركية، تزامنًا مع مقارعة أنظمة الاستبداد في وطنه؛ لأن الحظ الأميركي ما كان ليستقيم لولا اختطاف هذه الطغم الفاسدة التي عزّزت حظّ أميركا في بلادنا "ساعاتنا السعيدة" كلها.
ما تنشده الفلسفة الأميركية هو إقناع شعوب العالم كله بأن "المحظوظ" هو من يصبح مواطنًا أميركيًّا. تلك هي قمة الحظ، بالطبع، لكن للحظ مراتب أخرى لمن لا يُسعفه حظه بالهجرة، فأدوات التفكير الأميركي أوجدت أخطبوطًا للحظ يمد أذرعه المتعدّدة خارج الولايات المتحدة، وسيكون محظوظًا، مثلًا، من طاولته الذراع الاقتصادية، فاقتنى سلعةً أميركية ما، وسيكون محظوظًا من تقرّر شركة أميركية عابرة للقارات أن تنشئ فرعًا لها في بلده، وسيكون محظوظًا من تطاوله الذراع العسكرية، فتحظى بلاده باحتضان قاعدةٍ أميركية، أو تزور ميناءه بارجة أميركية، أو يعقد حاكمه معاهدة عسكرية مع أميركا، بل إنه لشرفٌ كبيرٌ حتى أن يزور بلده مسؤول أميركي، أو حتى مواطن عاديّ يحمل الجنسية الأميركية.. وقد يستطيل الحظ بمن يحظى بـ"ضربةٍ" عسكرية أميركية؛ لأنها تمثل مقدمةً لاحتلال مقبل، كما حدث للعراق، فكل هذه "الضربات" تمائم لاستجلاب الحظ، أما أعظم تلك التمائم في منطقتنا فهو "إرضاء إسرائيل"؛ لأنها مجلبة للحظ الأميركي بالطبع.
قبالة ذلك، سيكون "عاثر الحظ" من يبقى في وطنه، وهذا هو الأخطر في مشروع الهجرة الأميركي، ففي مقابل أميركا هناك فناء خلفيّ يدعى العالم الآخر، لا يصلح إلا لطمر النفايات، في أحسن تقدير، ومن ثم تأتي هذه "الساعات الذهبية" فرصةً سانحةً ليس للخلاص من هذا الفناء فحسب، بل لترسيخ القناعة لدى قاطنيه بأنهم "عديمو الحظ"، وأنهم أدنى بمراتب عدة من سكان أميركا نفسها. والواقع أن أميركا تستغلّ في هذا الشأن، تحديدًا، أوضاع الحكم المزرية في العالم الثالث، التي تجعل من الأوطان مشانق خانقة حول رقاب شعوبها، فيبزغ الحظ، لا من الهجرة بحدّ ذاتها، بل بالخلاص من مشنقة الوطن، ثم ليترك المواطن معلقًا بين سؤالين: هل الحظ في الهجرة إلى أميركا أم بترك الوطن؟
عمومًا، يستفيد كثيرون من "ساعة الحظ" في الحانة الأميركية سنويًّا، ويتهافتون على الكؤوس المتاحة بنصف شقاء الأوطان التي تنعدم فيها شتى "ضربات الحظ"، ولا يبقى فيها غير "ضربات السياط". لست ألومهم، غير أني على قناعة، أيضًا، بأن المحظوظ هو من يحظى بشرف مقارعة الهيمنة الأميركية، تزامنًا مع مقارعة أنظمة الاستبداد في وطنه؛ لأن الحظ الأميركي ما كان ليستقيم لولا اختطاف هذه الطغم الفاسدة التي عزّزت حظّ أميركا في بلادنا "ساعاتنا السعيدة" كلها.