تسارعت التطورات السياسية والعسكرية في ربع الساعة الأخير الذي سبق موعد استفتاء انفصال إقليم كردستان عن العراق، المقرر اليوم الاثنين، والذي يجري في مناطق الإقليم والمناطق المتنازع عليها. تطورات شهدت اجتماعات للأحزاب الرئيسية في الإقليم الشمالي، بموازاة رفع العراق ودول الجوار من إجراءاتها العقابية المسبقة، مع تهديد عسكري من تركيا ومن إيران. أما الخطر العسكري الأكبر، فهو سيُحسم في المناطق المتنازع عليها أكان في كركوك أو مناطق سهل نينوى وسنجار وديالى التي يسيطر عليها الأكراد عسكرياً، ويشركونها في استفتاء اليوم بقوة الأمر الواقع، وسط انتشار أمني كثيف من جانب البشمركة وبقية الفصائل الكردية المسلحة. وتدرك القيادة السياسية لإقليم كردستان العراق أن النجاح المتوقع لخيار الانفصال لن يؤدي فوراً إلى الاستقلال عن العراق، بل إن النتيجة ستشكل ورقة قوة كبيرة في مفاوضات أربيل مع الأطراف الأخرى المعنية بترتيبات الانفصال، أكان مع بغداد أو مع طهران وأنقرة، في قضايا الحدود والثروة وتنظيم العلاقات البينية.
ورفعت القوات التركية والإيرانية من إجراءاتها العسكرية ومناوراتها في المناطق المحاذية للحدود مع كردستان العراق، على وقع قطع إيران جميع الرحلات الجوية من مطاري السليمانية وأربيل وإليهما، وهو ما يرجح أن تفعله كل من سلطات بغداد وأنقرة، فضلاً عن تطبيق حزمة عقوبات إضافية تبدأ من إغلاق الحدود وقطع العلاقات الاقتصادية وفرض الحصار. وتعطي هذه الإجراءات المسبقة، فكرة عن الأجواء التي ستشهدها المنطقة، بدءاً من اليوم، وهو ما يرجّح أن يصبح موضوع انفصال كردستان، واحتمال تمدد عدواه في المنطقة، هو الطاغي بدل العنوان العريض للحرب على الإرهاب، مع وصول المواجهة مع تنظيم "داعش" إلى مراحلها الأخيرة فعلياً، في كل من سورية والعراق.
ويحصل استفتاء الانفصال اليوم، بعد فشل جميع الوساطات الدولية والغربية والعراقية والإقليمية، الهادفة إلى تأجيل الموعد على الأقل، أو تقديم بدائل للإقليم الكردي كتعويض عن الانفصال والاستقلال، من دون أن تجد القيادة الكردية في جميع العروض ما يلبي مطالبها التي تنحصر بالانفصال. وأعلن مجلس الأمن القومي الإيراني الأعلى، والذي عقد أعضاؤه جلسة طارئة، أمس الأحد، عن إغلاق إيران لمجالها الجوي مع إقليم كردستان العراق بناء على طلب من الحكومة العراقية في بغداد. في موازاة ذلك، كثفت القوات الإيرانية من مناوراتها العسكرية في المنطقة الحدودية مع إقليم كردستان العراق، ونفّذت طائراتها ضربات جوية ضد أهداف لحزب العمال الكردستاني داخل الأراضي العراقية. وأعلن المتحدث باسم المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني كيوان خسروي، أن "القرارات المتسرعة لبعض المسؤولين في الإقليم الكردي ستقيد قدرة التأثير والحوار البناء للأكراد في العراق، وستهدد أمن الأكراد والعراق والمنطقة برمتها". وفي 17 سبتمبر/أيلول الحالي، هددت ايران بإغلاق حدودها مع كردستان العراق ووضع حد لكل الاتفاقات الأمنية في حال إعلان استقلال الإقليم عن السلطة المركزية في بغداد. وتضاعف ايران تواصلها، خصوصا على المستوى العسكري، مع تركيا لتنسيق خطواتهما ضد استفتاء كردستان العراق. ولهذا الغرض، يزور الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في 4 أكتوبر/ تشرين الأول، طهران للتباحث خصوصا في وضع إقليم كردستان العراق. ويترقب العالم والإقليم، نوعية الإجراءات التي لوحت كل من بغداد وأنقرة وطهران باتخاذها على جميع الصعد، ضد استفتاء الانفصال، الذي يعارضه العدد الأكبر من دول العالم والأمم المتحدة.
لكن القيادة السياسية للإقليم العراقي بدت غير عابئة بكل التهديدات، فقررت أحزابها مجتمعة السير بالخيار الانفصالي "لو مهما كلف الأمر" على حد ما جاء في بيان لاجتماع الأحزاب الكردية الرئيسية، في مصيف صلاح الدين، قرب أربيل. وذهب الإقليم أبعد من ذلك، فوضع تصوراً عاماً لشكل الدولة الكردية المقرر أن تكون فدرالية مدنية متعددة اللغات والقوميات والأديان. وقد ارتأى عراب الاستفتاء، رئيس الإقليم، مسعود البارزاني، فتح دفاتر الماضي في مؤتمر صحافي عقده من أربيل، اعتبر فيه أنه "كان يفترض أن تكون العلاقة بيننا وبين بغداد قائمة على الشراكة بين العرب والأكراد لكن كان نصيبنا الدمار والقتل والقصف بالكيميائي في الأنفال وحلبجة والتعريب والتهجير، ثم بعد 2003 كان الدستور جيداً وكان لدينا أمل كبير ببدء مرحلة جديدة في العراق". واعتبر البارزاني أن "الدستور الجديد لم يطبق وخصوصاً المادة 140 منه (حول المناطق المتنازع عليها) وكأنّ الأسماء والوجوه تغيرت لكن العقلية ظلت كعقلية من ارتكب بحقنا مجازر الأنفال وحلبجة ولم يتم إعطاء الإقليم الشق الخاص به من موازنة العراق الذي يعتبر اليوم دولة طائفية وليس دولة ديمقراطية، وصار كل من ينتهك حقوق كردستان أكثر ويحرض ضد الأكراد أكثر، تكبر شعبيته في بغداد". وأشار البارزاني إلى أن بغداد "أرغمتنا على أن نخطو هذه الخطوة وفكرنا ملياً وقررنا السير بالاستفتاء وأبلغناهم بأن الشراكة بيننا انتهت ودعونا نكون جيراناً صالحين وكانوا متفهمين العام الماضي".
ولفت البارزاني إلى أن الأطراف الأخرى باشرت بالتهديد مباشرة، معرباً عن قناعته بأن التعاطي الإقليمي اليوم مع استفتاء كردستان "ناتج عن ثقافة وتراث قائمين على رفض حقوق الأكراد وخياراتهم". ووصل الأمر بالبارزاني إلى اعتبار أن "الاستقلال هو الطريق الوحيد لتفادي حصول كوارث جديدة بحق الأكراد". وأوضح أن الاستفتاء لا يفرض أمراً واقعاً على أي منطقة" (في إشارة إلى المناطق المتنازع عليها) وأن "الحوار مع بغداد بعد الاستفتاء يحب أن يتمحور حول كيفية تنفيذ نتائج الاستفتاء لكي نكون جيراناً صالحين في المستقبل بما أن الشراكة فشلت بيننا ولن تعود". وشدد على استمرار "العلاقة الممتازة بين البشمركة وبين الجيش العراقي وضرورة مواصلتها". وطمأن البارزاني إلى أن كردستان سيبقى "منزلاً للنازحين بكرامتهم إلى حين عودتهم إلى ديارهم وهم مخيرون في كل شيء، فالمشكلة هي مع الحكومة العراقية ولن نسمح بنشوء صراع مع العرب والتركمان والسريان وسنحتفظ بهذا التراث ونحافظ عليه". وعن العلاقة مع دول الجوار، أعرب البارزاني عن أمله أن تكون العلاقة على أفضل ما يرام، متعهداً بأن يثبت لهم كردستان "أن بلدنا سيكون بلد سلام". وتعهد البارزاني أن يكون النظام المقبل لكردستان "نظاماً ديمقراطياً فدرالياً يضمن حقوق جميع الأقليات"، ليدعو في النهاية سكان كردستان إلى التوجه غداً (اليوم) إلى صناديق الاقتراع ليكون التصويت عملية شفافة ونظيفة". ورداً على سؤال حول احتمال تعرض كردستان لعزلة عالمية، أجاب البارزاني أن أربيل وصلت إلى قناعة أن أي ثمن سيدفعه سيكون أقل ضرراً من عدم إجراء الاستفتاء، مجدداً الطمأنة إلى أن "أكراد العراق سيحترمون القوانين الخاصة بالحدود الدولية".
وبينما كان البارزاني يواصل مؤتمره الصحافي، خرج رئيس الحكومة حيدر العبادي بخطاب موجه إلى الشعب العراقي، ليعلن أن العراق "يتعرض لمحاولة تقسيم"، متعهداً أن العراق "لن يتخلى عن مواطنيه الأكراد ونرفض الدولة الطائفية كما نرفض الدولة العنصرية"، في إشارة إلى كردستان. وخاطب العبادي الشعب الكردي مطالباً إياه بمساءلة مسؤولي الإقليم حول مصير الموارد النفطية التي يتقاضونها "مع أنهم يحصلون على كميات نفط أعلى بكثير من نسبة السكان في الإقليم". ولوح العبادي بأن بغداد لن تعترف بنتيجة الاستفتاء وأنها ستتخذ خطواتها حيال الأمر.
وتفتح مراكز الاقتراع في إقليم كردستان العراق أبوابها للاستفتاء في ظل مقاطعة الأمم المتحدة ومنظمات أوروبية عدة تم توجيه دعوات مسبقة لها تحت حماية القوات الكردية (البشمركة والاسايش) وبمشاركة من أعضاء الأحزاب الرئيسية في كردستان فضلا عن أعضاء منظمات كردية بواقع 108 آلاف عنصر مسلح بمدرعات ودبابات وأسلحة ثقيلة قرب مراكز الاقتراع في المناطق المتنازع عليها، فيما شهدت مناطق الإقليم الأخرى إجراءات أمنية اقل حدة. ووفقاً لأرقام حكومة أربيل التي أعلنتها مفوضية الاستفتاء في كردستان، فإنه يحق لخمسة ملايين و200 ألف شخص التصويت على الاستفتاء بنعم أو كلا، إلا أن التوقعات تشير الى أن النسبة العامة للتصويت لن تتجاوز 60 بالمائة بسبب عزوف العرب من مسلمين ومسيحيين وتركمان وطوائف أخرى عن المشاركة، بمواقف أعلن عنها مسبقا من قبل قيادات بارزة خاصة في كركوك وسهل نينوى وبلدات في ديالى وصلاح الدين تسيطر عليها البشمركة منذ انسحاب تنظيم "داعش" منها خلال الأعوام 2015 و2016 ومطلع عام 2017.
وتم تجهيز 12 ألف صندوق اقتراع موزعة على 2000 محطة اقتراع في أربيل والسليمانية ودهوك وحلبجة والمدن المتنازع عليها مثل (كركوك وسهل نينوى ومخمور وسنجار ومندلي وخانقين وكلار وبلدات أخرى ذات خليط عربي تركماني كردي وآشوري). ومن المقرر أن تعلن نتائج الاستفتاء الذي تحوي ورقة الاقتراع الخاصة به خيارين فقط (نعم أو كلا) خلال الساعات الثماني والأربعين المقبلة على اقصى تقدير وفقا لعضو مجلس استفتاء كردستان حميد دوسكي الذي أكد في اتصال مع "العربي الجديد" أن "المجلس سيقوم بعملية فرز أوراق المقترعين تحت عين مراقبين محليين ومنظمات ووسائل إعلام مختلفة" وفقا لقوله.
ما بعد الاستفتاء
وصول الوفد الكردي إلى بغداد مساء السبت الماضي في ما عرف بمساعي الساعات الأخيرة، ورفض رئيس الوزراء حيدر العبادي استقباله هو أو أي من القيادات البارزة في الحكومة العراقية والإعلان عن فشل الزيارة رسميا ومن ثم إصدار حكومة الإقليم بيانا أكدت فيه مضيها في الاستفتاء، جميعها يفسرها مسؤول عراقي بارز لـ"العربي الجديد" بالقول إن "الوفد الكردي جاء بمطالب عالية جدا لا يمكن أن تكون مقبولة لا من الحكومة ولا من الشارع العراقي وقامت أربيل برسم خط عرض داخل الخارطة العراقية ابتلعت فيه اكثر من 11 الف كم من الأراضي العراقية لضمها إليهم تحت عنوان "المناطق المتنازع عليها". وأشار المصدر إلى أن "الوفد يحاول ابتزاز بغداد وحاليا المشكلة لم تعد داخلية بل دولية ستفجر المنطقة لذا فإن الحكومة العراقية مطمئنة إلى عدم إمكانية الأكراد القيام بأي إجراء عملي بعد هذا الاستفتاء". وتابع أن "الاستفتاء حاليا مجرد ورقة كردية للضغط على بغداد للحصول على مكاسب تبدأ من ملف المناطق المتنازع عليها مرورا بالموارد النفطية وانتهاء بمحاولة الحصول على الكونفدرالية بعد تعديل الدستور العراقي المقر بعد 2003 وذلك بسبب اصطدام القيادات الكردية برد فعل عنيف لم يكونوا يتوقعونه على الأقل بهذه الحدة من الدول الغربية التي من المفترض أن تكون حليفة للأكراد، فضلا عن تهديدات أنقرة وطهران" على حد تعبير المسؤول العراقي. وحول الخطوة المقبلة بعد هذا الاستفتاء، قال المسؤول العراقي الذي طلب عدم الكشف عن اسمه إن "الاستفتاء لن يسفر عن أي نتائج عملية على الأرض على الأقل على المدى القريب لكن ستكون هناك مفاوضات بالتأكيد من دون أن يكون الانفصال أحدها".
أما القيادي في التحالف الكردستاني حمة أمين فقد اتهم من سماهم "العرب في المنطقة" بأنهم يعانون من مرض انفصام الشخصية "إذ يهاجمون الاستعمار ويلعنونه وفي الوقت نفسه يدافعون عن خارطة سايكس بيكو الملعونة". في المقابل، ردّ عضو جبهة الحراك الشعبي العراقية محمد عبد الله قائلا إن "تقرير المصير لا يكون على حساب ابتلاع مناطق كاملة وتغيير ديموغرافي لاأخلاقي في كركوك ونينوى وديالى وصلاح الدين". من جانبه، أشار عضو التحالف الحاكم في العراق مازن المازني إلى أنه بمجرد الانتهاء من تنظيم الاستفتاء "فستكون هناك مشاكل بالتأكيد، لذا نتمنى أن يكون الاستفتاء مجرد استفتاء بلا تبعات فلا يمكن التفكير أصلا بفصل كردستان عن العراق ولا يمكن القبول بأنهم يستفتون للضغط على العراق بهذه الورقة كما أن المناطق المتنازع عليها ليست من حق أربيل، ولن نفرط بها، وفي حال التلويح بالقوة فالحكومة لديها إجراءاتها". بدوره، توقع عضو الوفد الكردي المفاوض ماجد شنكالي في حديث لـ"العربي الجديد" أنه بعد الاستفتاء "سيكون هناك حوار للحديث عن عدة ملفات شائكة وطويلة وستأخذ وقتاً طويلاً".