28 يناير 2024
استقالة الروبوت وبلد المليون متظاهر
لا أدري إن كان قد دار في خلد المذيعة الجزائرية نادية مداسي، خبر "نظيرتها" المذيعة "الروبوتة" شين شياو مينغ التي ابتكرتها الصين أخيراً، قبل أن تفاجئ (مداسي) المشاهدين بنبأ استقالتها على الهواء مباشرة، وذلك بعد إجبارها على بث مقتطفاتٍ من خطاب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي تعهد فيه بالتخلي عن الرئاسة حال انتخابه رئيساً لفترة ولاية خامسة.
بداية، لم تكن "الروبوتة" مينغ أول ابتكار صيني من هذا النوع، فقد سبقها قبل ذلك روبوت ذكر، قدّم نشرة أخبار باللغة الصينية أيضًا، وكان مفاجأة لوسائل الإعلام العالمية، على الرغم من أن ابتكارًا من هذا النوع لا يستوقفني كثيرًا، من دولة ذات إعلام مسيّر لا مخيّر، كالصين ومن على شاكلتها من دول الأنظمة الاستبدادية، ومنها دولنا بالطبع.
لم يكن مثل هذا الاختراع مفاجأة كما أسلفت، بل هو نتاج حتميّ لمبتكرات تلك الأنظمة التي جعلت من طواقم إعلامها مجرّد "روبوتات بشرية"، لا تقدّم غير "أنشطة" الرئيس وزبانيته، بعباراتٍ مكرورةٍ ممجوجةٍ، صار يحفظها المذيع والمشاهد، في الآن ذاته، عن ظهر بعير: (الرئيس.. المهيب.. الركن.. القائد.. الباني.. المعلم.. افتتح.. أغلق.. استقبل.. زار.. أكد.. تبوّل.. نام.. تناول.. أمدّ الله في عمره).. ثم أخيراً: "انتقل المغفور له إلى جوار ربه"، لتبدأ بعدها أسطوانةٌ مماثلةٌ مع زعيم جديد، لا يتغير فيها غير الاسم، أما القوالب فتظل على حالها.
أمام هذا التكرار المملّ، رأى الصينيون، ولهم العذر، أن في وسع الروبوت الآلي أن يقوم بهذه المهمة التي لا تحتاج إلى أزيد من برمجة تلك العبارات في دماغه الصغير، غير أن الأخطر هو ذلك الحسّ الأمني الذي دار في ذهن من أوعز بصناعة هذا الروبوت، إذ خشيت أجهزة أمن النظام أن يتمرّد "الروبوت الإنسان" يومًا على شاشة التلفاز، فيخرج على "نصّ" الرئيس ولو بحرفٍ واحد، وحينها قد يرتبك النظام كله، لأن المشاهد في هذه الحالة هو الشعب نفسه الذي ينفق النظام عهده كله لبرمجته (الشعب)، وفق مشيئة الرئيس بالطبع، ليغدو هو الآخر "شعبًا آليًّا" مسيّرًا عن بعد وقرب بالريموت كونترول.
ربما دار هذا كله وأزيد في خلد نادية مداسي، المذيعة التي عملت 15 عامًا لنشرة أخبار قناة الجزائر المسائية الناطقة بالفرنسية، حين أجبرت على بث مقتطفات من خطاب بوتفليقة المذكور، فأحسّت في خضمّ التظاهرات التي تشهدها الجزائر، حاليًّا، أنها ستخون الشارع الذي يغلي احتجاجًا على ترشّح زعيم مُقعد يتشبث بالرئاسة حتى آخر "مقعد".
في بؤرة تلك اللحظة تمامًا، استيقظت مداسي على حقيقة ما آلت إليه، ورأت نفسها تلك "الروبوتة" الصينية المبرمجة مسبقًا للتحدّث باسم الرئيس، فقرّرت للمرة الأولى في حياتها أن تتمرّد، لتستعيد بشريّتها المختطفة من نظام حوّل البلد كله إلى ثكنة عسكرية باسم "الثورة"، وأبّد حكم العسكر أزيد من نصف قرن، حتى ولو بلغ عسكر الثورة مرحلة الكراسيّ المتحرّكة، فمن الثوار من يرى أن على الشعب أن يردّ دين الثورة له، بتسجيل سدة الحكم ملكية خاصة به، وبأولاده من بعده، على قاعدة أنه من "ثار" ومن "ضحّى"، إلى الحدّ الذي يجعلنا نتساءل بريبةٍ عن الدوافع الخفية التي كانت تقف وراء إعلان الثورة من أساسها.
هي عودة للوعي ما حدث لمداسي، ولن أزعم أنها مباغتة، بل حصيلة تراكماتٍ طويلة من الاحتقان الذي يجثم في صدرها وعلى لسانها المؤجّر للزعيم إيجارًا أبديًّا، فكان الزلزال الإعلامي الذي ضرب بلد المليون شهيد، وقريبًا "المليون متظاهر".. أولئك الذين يقدّمون استقالتهم أيضًا من وظيفة "رعايا الرئيس" التي كتبها عليهم "الثوار" في لوح الاستبداد غير المحفوظ.
بقي خبر لم تتناوله وسائل الإعلام بعد، أن "الروبوتة" الصينية شين شياو مينغ، فاجأت صانعيها، وقدّمت هي الأخرى استقالتها أيضًا.
لم يكن مثل هذا الاختراع مفاجأة كما أسلفت، بل هو نتاج حتميّ لمبتكرات تلك الأنظمة التي جعلت من طواقم إعلامها مجرّد "روبوتات بشرية"، لا تقدّم غير "أنشطة" الرئيس وزبانيته، بعباراتٍ مكرورةٍ ممجوجةٍ، صار يحفظها المذيع والمشاهد، في الآن ذاته، عن ظهر بعير: (الرئيس.. المهيب.. الركن.. القائد.. الباني.. المعلم.. افتتح.. أغلق.. استقبل.. زار.. أكد.. تبوّل.. نام.. تناول.. أمدّ الله في عمره).. ثم أخيراً: "انتقل المغفور له إلى جوار ربه"، لتبدأ بعدها أسطوانةٌ مماثلةٌ مع زعيم جديد، لا يتغير فيها غير الاسم، أما القوالب فتظل على حالها.
أمام هذا التكرار المملّ، رأى الصينيون، ولهم العذر، أن في وسع الروبوت الآلي أن يقوم بهذه المهمة التي لا تحتاج إلى أزيد من برمجة تلك العبارات في دماغه الصغير، غير أن الأخطر هو ذلك الحسّ الأمني الذي دار في ذهن من أوعز بصناعة هذا الروبوت، إذ خشيت أجهزة أمن النظام أن يتمرّد "الروبوت الإنسان" يومًا على شاشة التلفاز، فيخرج على "نصّ" الرئيس ولو بحرفٍ واحد، وحينها قد يرتبك النظام كله، لأن المشاهد في هذه الحالة هو الشعب نفسه الذي ينفق النظام عهده كله لبرمجته (الشعب)، وفق مشيئة الرئيس بالطبع، ليغدو هو الآخر "شعبًا آليًّا" مسيّرًا عن بعد وقرب بالريموت كونترول.
ربما دار هذا كله وأزيد في خلد نادية مداسي، المذيعة التي عملت 15 عامًا لنشرة أخبار قناة الجزائر المسائية الناطقة بالفرنسية، حين أجبرت على بث مقتطفات من خطاب بوتفليقة المذكور، فأحسّت في خضمّ التظاهرات التي تشهدها الجزائر، حاليًّا، أنها ستخون الشارع الذي يغلي احتجاجًا على ترشّح زعيم مُقعد يتشبث بالرئاسة حتى آخر "مقعد".
في بؤرة تلك اللحظة تمامًا، استيقظت مداسي على حقيقة ما آلت إليه، ورأت نفسها تلك "الروبوتة" الصينية المبرمجة مسبقًا للتحدّث باسم الرئيس، فقرّرت للمرة الأولى في حياتها أن تتمرّد، لتستعيد بشريّتها المختطفة من نظام حوّل البلد كله إلى ثكنة عسكرية باسم "الثورة"، وأبّد حكم العسكر أزيد من نصف قرن، حتى ولو بلغ عسكر الثورة مرحلة الكراسيّ المتحرّكة، فمن الثوار من يرى أن على الشعب أن يردّ دين الثورة له، بتسجيل سدة الحكم ملكية خاصة به، وبأولاده من بعده، على قاعدة أنه من "ثار" ومن "ضحّى"، إلى الحدّ الذي يجعلنا نتساءل بريبةٍ عن الدوافع الخفية التي كانت تقف وراء إعلان الثورة من أساسها.
هي عودة للوعي ما حدث لمداسي، ولن أزعم أنها مباغتة، بل حصيلة تراكماتٍ طويلة من الاحتقان الذي يجثم في صدرها وعلى لسانها المؤجّر للزعيم إيجارًا أبديًّا، فكان الزلزال الإعلامي الذي ضرب بلد المليون شهيد، وقريبًا "المليون متظاهر".. أولئك الذين يقدّمون استقالتهم أيضًا من وظيفة "رعايا الرئيس" التي كتبها عليهم "الثوار" في لوح الاستبداد غير المحفوظ.
بقي خبر لم تتناوله وسائل الإعلام بعد، أن "الروبوتة" الصينية شين شياو مينغ، فاجأت صانعيها، وقدّمت هي الأخرى استقالتها أيضًا.