اطمئنّي يا ذات اللحم الثمين

19 مايو 2015

امرأة عربية (Getty)

+ الخط -
هل كنت ابنة شهوة عابرة، تركتك فجراً على باب ماخور رخيص يدعى، اعتباطاً، ملجأ أطفال، أم كنت علبة فارغة على شارع مكتظ بالمركبات، لا ينجيها من السحق والمحق غير تحالف الريح والحظ فحسب؟ 
الأمر سيان، أيتها المرأة التي ناشدتني أن أكتب قصتها، من دون ذكر اسمها، خوفاً من انتقام مافيات الجنس العربية التي باتت تمد أذرعها كأخطبوط في ثقوب عواصم الضاد، من ألفها إلى يائها، بغطاء من تحالف المال والسلطة .. بل ومن رجال دين، يتستّرون خلف الزي الكهنوتي، لتحقيق كسب حرام.
سأسميك لقيطة، إذاً، لأنه الاسم الوحيد الذي يقبله قاموسنا الذي يدّعي تسمية الأشياء بأسمائها، على الرغم من أنه ما يزال لا يفرق بين "الملجأ" و"الماخور"، خصوصاً إذا كان المسمى نكرة في عرفه المشوّه، متغافلاً أنك الابنة الشرعية الوحيدة في زمنٍ، أصبحنا فيه جميعاً لقطاء على مصاطب التخلف والهزائم والحروب العبثية.
أتراني، سأنجح بسرد قصتك من دون أن يذرفني القهر والغضب شلالات في شوارع بيروت وعمان ودمشق وتونس، وأعني بها العواصم التي ذكرتها في معرض حديثك عن مافيات اللحم "الثمين" التي يقتادونك إليها، كلما احتقنت الشهوات في العروق الفارغة، إلا من قشّ الهباء؟
لا يهم، سيدتي، سأكون راويتك هذا الصباح، وكاتب عدل لمرة واحدة في حياتي المقطّرة بالظلم، حين لم أنتبه إلى صراخك في ذلك الملجأ الذي يسمى "ديراً" من باب المواربة.
كنت ابنة شهوة عابرة، كما قلت، وضعوك على باب دير مكتظ بالرهبان، بعد أن لم تحظي بفرصة التعلق بالرحم الذي أنجبك خفية في سراديب الخطيئة، وألقاك على المصطبة الباردة ليلاً، لتواجهي مصيراً يعجز عن وصفه صاحب البؤساء، فيكتور هوغو. فهناك، في الدير الذي يفترض أن يكون مأوى الأيتام واللقطاء وأبناء الشهوات العابرة، بهدف تضميد الجراح وإضفاء طابع إنساني على كائنات تفتقد محيطها الاجتماعي الطبيعي، وجدت نفسك أسيرة رهط من العفاريت والشياطين المتجلببين بستار الدين، للتستر على مصنع الدعارة الذي لم يكن له همّ غير تفريخ المومسات وترويجهن وقبض أجورهن، مقابل المأوى ووجبات الشاي والخبز، والويل، كل الويل، لمن تتمرد على هذه "الوظيفة" الإجبارية، إذ يصل العقاب إلى حد الموت، أحياناً، لهذه الكائنات المجهولة النسب، وهو موت لا يترك أثراً، ولا يعذب غير حفاري القبور فقط.
أما أول المحتفلين بنضوج اللحم الثمين، فكانوا رجال الدين أنفسهم. يا للعار سيدتي، ليتني لم أسمع هذه العبارة منك، لأنها صدمتني حقاً، وجعلتني أتساءل كيف تنحط القداسات إلى هذا الدرك؟ وقلت، أيضاً، إن من وصاياهم الثمينة تجنب الحب والعلاقات الغرامية، لأنها "تدنس" الروح وتستجلب غضب الرب، فأي مفارقة هذه حين يستبيحون الجسد ويحرمون الروح؟
عموماً، أدرك سيدتي، ذات الاسم الممنوع والجسد المباح، أنني لن أستطيع مساعدتك أكثر مما فعلت، لكنني على ثقة بأن روحك لم تزل حرة، لم تصل إليها المسوخ، بدليل مناشدتك التي جاءت من بئر عميقة، لا يسمعها، أو بالأحرى، يرفض أن يسمعها أحد منا.
ما أود قوله، يا ذات اللحم الثمين، إن ملجأك أقل بؤساً من ملجأ الوطن العربي بأكمله الذي لم يعد يفرخ سوى النكبات والطغاة وسماسرة بيع الشعوب والأوطان، ومحترفي سرقة الثورات والثروات وأحلام البسطاء.
كلنا خريجو ملاجئ، سيدتي، يقوم عليها وعاظ السلاطين، والمسبحون بحمدهم، والمزينون لطغيانهم، والداعون لهم بطول الفتك والقمع على منابر المساجد ومذابح الكنائس، وكلنا لحم رخيص في الزنازين والسجون وأدوات التعذيب، وأمام الرصاص الحي والمطاطي، ولا يساوي أحدنا في عين سلاطينه وحكامه أكثر من ذبابة مزعجة، وكلنا لحم رخيص أمام آلات الدمار الصهيونية، والقنابل الذكية والغبية الأميركية، وكلنا مجهولو النسب أمام الدوائر الحكومية والمراكز الصحية، أو لدى أدنى مطالبة بحقوقنا.
كلنا لحم رخيص، يا ذات اللحم الثمين، فاطمئني.
دلالات
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.