الحملات النسوية وسؤال المجهولية
في مارس/ آذار الماضي، احتفل متضامنون حول العالم مع حملة "وأنا أيضا" بالحكم التاريخي ضد المنتج الأميركي النافذ، هارفي وينستين، بالسجن 23 عاما بتهم اغتصاب واعتداء جنسي. لكن من اللافت أن الحكم جاء فقط لصالح حالتين من نحو 80 ادعاءً علنيا أو مجهلا من فتيات ضده. وبالمثل، صدر حكم ضد الممثل بيل كوسبي بالسجن عشر سنوات، مع حق إطلاق السراح بعد ثلاث سنوات، لصالح فتاة واحدة فقط، من إجمالي نحو 60 شهادة ضده.
يكفي هذا المشهد للرد على من يتساءلون، بجهل أو استجهال، لماذا لا تكشف الفتيات في العالم العربي عن هوياتهن، حين يطلقن شهادات في السياق نفسه؟ ولماذا يصبح من العبثي طرح أنه ما لم تتقدّم الناجية ببلاغ إلى الجهة القضائية، فلتخرس إلى الأبد. شهدنا ذلك في مصر، حين انطلقت صفحة "بوليس الاعتداءات الجنسية"، وهي صفحة يديرها مجهولون وتنشر شهاداتٍ قد تتلقاها من مجهولين، ولاحقا انطلقت مدونة "دفتر حكايات" للغرض نفسه.
من الصحيح أن المنظومة القانونية العالمية الحالية قد بُنيت في سياق تطور تاريخي إيجابي، جوهره أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وأن المدّعي الكاذب قد يستحق العقاب. ولكن واقعيا ثبت أن هذه المنظومة أدت إلى حماية مغتصبين ومتحرّشين عشرات السنوات، وذلك في قلب هوليوود، حيث يُفترض أن النساء هن الأكثر "تمكينا"، وحيث منظومة قضائية مستقلة، وحراك مجتمعي قوي داعم، وبالتالي، فإن المنظومة بالكامل تستحق المراجعة. لذلك ما نشهده اليوم هي ردّات فعل عنيفة، تحتجّ، في جوهرها، على المنظومة العاجزة عن حماية النساء، والتي لم تشهد تطورا تاريخيا يصمّمها لأمثال هذه الجرائم. كيف يمكن إثبات واقعة اغتصاب لا شهود عليها، بعد سنوات من وقوعها؟ كيف يمكن التمييز بين "الموافقة الواعية" والموافقة تحت ضغط؟ وهل تسقط الوقائع بالتقادم؟ كلها أسئلة تدعو إلى تغيير المنظومة. وشهدنا تعديلات في قوانين في أميركا وألمانيا وغيرهما، سواء حول التعريفات، أو حول آليات الإثبات، كاستخدام الشهادات المتطابقة قرائن لصالح حالة بعينها.
الوضع في بلادنا أسوأ، حيث تعاني الناجية من الوصم المجتمعي، ويتم النظر إلى النساء، بالمجمل، كغنائم غرضها إمتاع الرجل، أو الانتقال من ملكية رجل إلى آخر، وهي وحدها المسؤولة عن حفظ "شرفها"، فتُطرح الأسئلة فورا عن تسبّبها بإغراء الرجل المسكين، حتى اضطر لارتكاب ما فعل. فضلا عن أن منظومة القضاء أقل استقلاليةً ومصداقية، والقوانين تشهد تمييزا وتساهلا. يعتبر التحرّش، في القانون المصري، جنحة تسقط بالتقادم بعد ثلاث سنوات، بينما هتك العرض جناية تسقط بعد عشر سنوات.
من المنطقي طرح تخوّفات حول استخدام آلية شهادة مجهلة "من مصدر مجهول لناشر مجهول" لإطلاق حملاتٍ ظالمة. ولكن يجب وضع ذلك في سياق أن هذا التخوف هو الاحتمال الأقل، وقد شهدنا محليا وعالميا كيف أن الغالبية الساحقة من الادّعاءات يثبت صدقها لاحقا.
أيضاً هذا التخوف تتم بالفعل معالجته بالتفاعلات الواقعية، فقد شهدنا، غربيا ومحليا، كيف أن هذه الآلية تُطلق الصافرة، ثم سرعان ما تتحوّل إلى كرة ثلج مذهلة، حيث تكرّر اكتشاف أن للمُدعى عليه عشرات أو مئات الضحايا في ظل نمطٍ ثابت عبر سنوات، وبعدها تتحوّل الآلية إلى شهاداتٍ "من مصدر معلوم لناشر معلوم"، بعد أن تلتقط الخيط جهاتٌ صحافية.
لولا آلية صفحة "بوليس الاعتداءات" لما تمّ، في النهاية، القبض على أحمد بسام زكي، المتهم بوقائع اغتصاب وتحرّش، وكذلك ملاحقة متّهمي "واقعة فيرمونت"، على الرغم من أنهم من أبناء أسر مصرية نافذة.
وعلى الرغم من ذلك كله، سيبقى هامش من المخاطرة والتجريب يجب قبوله، بالضبط كما هو مقبول في المنظومة القانونية الاعتيادية، فكم من قضايا ملفقة سُجن بها أبرياء، ولم يعن هذا المطالبة بإلغاء القضاء كاملا، بل عنى دائما العمل على تنقيح القوانين وتدقيق الإجراءات، وهذا هو ما سيجري بالمثل على الآليات الجديدة في عالمٍ جديدٍ، يكافح منظومة اجتماعية وقانونية مترسخة عبر قرون لا عقود.