09 نوفمبر 2024
الحُبُّ والتقوى
يبدو عالمنا اليوم مغرقاً في المادية إلى حد لم تعشه البشرية من قبل. وذلك لا يعني انحسار الأديان، بالعكس، فالأديان جميعها حاضرة عبر القارات والحضارات، وتميل في مناطق شاسعة من العالم نحو الأصولية، لكن ذلك كله لا يغير من الواقع المادي الذي يعيشه البشر.
يبدو الأمر متصلاً بتحويل الأديان من مسألة روحية إلى حالة أيديولوجية، تسعى إلى فرض مفاهيمها على الآخرين، بزعم إرشادهم إلى الصواب. في هذه الأثناء، انشغل أتباع الأديان بالأيدولوجيا وتطبيقاتها، وغفلوا عن مراميها الكبرى. لقد انشغلوا بالوسائل، وغفلوا عن الغايات!
من ذلك مثلاً أن شعائر العبادات قد لا تشكل بالضرورة رادعاً لدى قائمين بها يضمن حُسن تعاملهم مع الآخرين، واحترام الأخلاق الحميدة التي حثت عليها الأديان، في وقت يشعرون براحة ضميرٍ كبرى، لمجرد قيامهم بالصلوات وسائر العبادات، حتى لو أساؤوا لجيرانهم أو أفسدوا الفضاء العام، واعتدوا على حقوق الآخرين! هذا على الرغم من أن شعائر العبادات إنما هدفت أصلاً إلى إدامة العلاقة مع الخالق تعالى، ومن ثم ضمان استحضار تلك العلاقة على مر النهار والليل، بما ينعكس على شكل تهذيب السلوك الإنساني في مختلف تفاصيل الحياة.
في الإسلام، تعتبر "مخافة الله" رأساً للحكمة. التقوى إذن هي غاية الغايات التي يريد الإسلام من أتباعه بلوغها في سلوكهم اليومي، ويعدُهم نظيرَها بجنةٍ عرضها السموات والأرض "أُعدّت للمتقين"، كما تقول الآية الكريمة. ما يجعل شعائر العبادات درباً إلى التقوى، لأنها تذكّر المرء بخالقه: خمس مرات في اليوم في الصلاة، وشهراً في السنة في الصوم، وكذا في الزكاة والحج، فيكون مستحضراً لمراقبة الله له، لينعكس ذلك على سلوكه وممارساته.
الحال نفسه حاصل في المسيحية، وغيرها من الأديان والعقائد، السماوية وغير السماوية، فهي كلها تتخذ شعائر العبادات درباً إلى المحبة، تلك المحبة التي تجعل المرء خيّراً وطيّباً وصادقاً وأميناً في علاقاته وممارساته وسلوكياته اليومية، في البيت والعمل والشارع والسوق والفضاء العام.
من الطبيعي، إذن، أن يتحول العالم إلى المادية، حتى لو زاد انتشار التديّن، ما دام المتديّنون يستغرقون في شعائر العبادات، ويعتبرونها غايةً بذاتها، ومقياساً لصلاح المرء من فساده، فيما لا يعتبرون كثيراً بممارساته: أناني هو أم طيب، خيّر أم شرير، معطاء أم مقتّر،.. إلخ؟ ولعل أبلغ مثال على ذلك أن بعض المصلين لا يتردّدون في إغلاق الطريق العام بسياراتهم، كي يدخلوا إلى دور العبادة لأداء الصلاة! العبادة بالنسبة لهؤلاء لا تتناقض مع تهديد حياة الآخرين، لأن الصلاة في فهمهم هي الغاية بذاتها، لا "التقوى" ولا "المحبة".
في القول المأثور عن نبي الإسلام، صلى الله عليه وسلم، ما نصه: "اتقوا النار ولو بشقّ تمرة"، ذلك أصلٌ في أولوية إحسان التصرف وتهذيب السلوك مع الآخرين، إذ لو كانت شعائر العبادات هي الأصل، لا حُسن السلوك، لقيل اتقوا النار بالصلاة أو الصوم. لكن مقياس الفلاح يكمن في مدى خيّرية المرء، لا في كمية عباداته.
ثمّة في العالم ما تسمى "تجارب الاقتراب من الموت". تقص تلك التجارب حالاتٍ عاشها بعض من ظن الأطباء أنهم ماتوا، لكنهم رجعوا إلى الحياة بعد دقائق من توقف نبضهم أو أدمغتهم عن العمل. يروي هؤلاء، ورواياتهم جميعاً متشابهة أو متقاربة، أنهم أحسوا أرواحهم تغادر أجسادهم، فتمكّنوا من رؤية الغرفة، وكأنهم ينظرون إليها من السقف، ثم رؤية وسماع تفاصيل في الغرف المجاورة، يليها تذكّر تفاصيل حياتهم والإحساس بمشاعر الآخرين تجاه كل موقف: سعادة كان أو ألماً. المهم أنهم، بعد ذلك، يتعرضون لسؤال متشابه عن المحبّة، متدينين كانوا أو غير متدينين: "هل كنت محباً للآخرين؟"، "هل كنت تساعد الآخرين؟".
وسواء روت هذه التجارب أمراً حقيقياً أم متخيلاً، فإنها تؤكد مغزى الوجود البشري على الأرض: إنه تعلّم المحبة. وتريد الأديان أن تفتح باب محبة الإنسان أخاه الإنسان، ولما يحيطه من أشكال الحياة كافة، من خلال التقوى. اتقوا الله تفلحوا، يقول الإسلام، لأنكم إذا اتقيتموه كنتم أهلاً للمحبة التي يريدها الله، وسيسألكم عنها يوم القيامة. الله محبة، تقول المسيحية.
يبدو الأمر متصلاً بتحويل الأديان من مسألة روحية إلى حالة أيديولوجية، تسعى إلى فرض مفاهيمها على الآخرين، بزعم إرشادهم إلى الصواب. في هذه الأثناء، انشغل أتباع الأديان بالأيدولوجيا وتطبيقاتها، وغفلوا عن مراميها الكبرى. لقد انشغلوا بالوسائل، وغفلوا عن الغايات!
من ذلك مثلاً أن شعائر العبادات قد لا تشكل بالضرورة رادعاً لدى قائمين بها يضمن حُسن تعاملهم مع الآخرين، واحترام الأخلاق الحميدة التي حثت عليها الأديان، في وقت يشعرون براحة ضميرٍ كبرى، لمجرد قيامهم بالصلوات وسائر العبادات، حتى لو أساؤوا لجيرانهم أو أفسدوا الفضاء العام، واعتدوا على حقوق الآخرين! هذا على الرغم من أن شعائر العبادات إنما هدفت أصلاً إلى إدامة العلاقة مع الخالق تعالى، ومن ثم ضمان استحضار تلك العلاقة على مر النهار والليل، بما ينعكس على شكل تهذيب السلوك الإنساني في مختلف تفاصيل الحياة.
في الإسلام، تعتبر "مخافة الله" رأساً للحكمة. التقوى إذن هي غاية الغايات التي يريد الإسلام من أتباعه بلوغها في سلوكهم اليومي، ويعدُهم نظيرَها بجنةٍ عرضها السموات والأرض "أُعدّت للمتقين"، كما تقول الآية الكريمة. ما يجعل شعائر العبادات درباً إلى التقوى، لأنها تذكّر المرء بخالقه: خمس مرات في اليوم في الصلاة، وشهراً في السنة في الصوم، وكذا في الزكاة والحج، فيكون مستحضراً لمراقبة الله له، لينعكس ذلك على سلوكه وممارساته.
الحال نفسه حاصل في المسيحية، وغيرها من الأديان والعقائد، السماوية وغير السماوية، فهي كلها تتخذ شعائر العبادات درباً إلى المحبة، تلك المحبة التي تجعل المرء خيّراً وطيّباً وصادقاً وأميناً في علاقاته وممارساته وسلوكياته اليومية، في البيت والعمل والشارع والسوق والفضاء العام.
من الطبيعي، إذن، أن يتحول العالم إلى المادية، حتى لو زاد انتشار التديّن، ما دام المتديّنون يستغرقون في شعائر العبادات، ويعتبرونها غايةً بذاتها، ومقياساً لصلاح المرء من فساده، فيما لا يعتبرون كثيراً بممارساته: أناني هو أم طيب، خيّر أم شرير، معطاء أم مقتّر،.. إلخ؟ ولعل أبلغ مثال على ذلك أن بعض المصلين لا يتردّدون في إغلاق الطريق العام بسياراتهم، كي يدخلوا إلى دور العبادة لأداء الصلاة! العبادة بالنسبة لهؤلاء لا تتناقض مع تهديد حياة الآخرين، لأن الصلاة في فهمهم هي الغاية بذاتها، لا "التقوى" ولا "المحبة".
في القول المأثور عن نبي الإسلام، صلى الله عليه وسلم، ما نصه: "اتقوا النار ولو بشقّ تمرة"، ذلك أصلٌ في أولوية إحسان التصرف وتهذيب السلوك مع الآخرين، إذ لو كانت شعائر العبادات هي الأصل، لا حُسن السلوك، لقيل اتقوا النار بالصلاة أو الصوم. لكن مقياس الفلاح يكمن في مدى خيّرية المرء، لا في كمية عباداته.
ثمّة في العالم ما تسمى "تجارب الاقتراب من الموت". تقص تلك التجارب حالاتٍ عاشها بعض من ظن الأطباء أنهم ماتوا، لكنهم رجعوا إلى الحياة بعد دقائق من توقف نبضهم أو أدمغتهم عن العمل. يروي هؤلاء، ورواياتهم جميعاً متشابهة أو متقاربة، أنهم أحسوا أرواحهم تغادر أجسادهم، فتمكّنوا من رؤية الغرفة، وكأنهم ينظرون إليها من السقف، ثم رؤية وسماع تفاصيل في الغرف المجاورة، يليها تذكّر تفاصيل حياتهم والإحساس بمشاعر الآخرين تجاه كل موقف: سعادة كان أو ألماً. المهم أنهم، بعد ذلك، يتعرضون لسؤال متشابه عن المحبّة، متدينين كانوا أو غير متدينين: "هل كنت محباً للآخرين؟"، "هل كنت تساعد الآخرين؟".
وسواء روت هذه التجارب أمراً حقيقياً أم متخيلاً، فإنها تؤكد مغزى الوجود البشري على الأرض: إنه تعلّم المحبة. وتريد الأديان أن تفتح باب محبة الإنسان أخاه الإنسان، ولما يحيطه من أشكال الحياة كافة، من خلال التقوى. اتقوا الله تفلحوا، يقول الإسلام، لأنكم إذا اتقيتموه كنتم أهلاً للمحبة التي يريدها الله، وسيسألكم عنها يوم القيامة. الله محبة، تقول المسيحية.