01 أكتوبر 2022
السماء تمطر جثثاً
لم تكن زينة تعرف أن الهول قادم، حتى أمطرت السماء بأجساد زملائها على ساحة الكلية. زينة اسم مستعارٌ لطالبةٍ سورية في جامعة حلب، روت لي، حين التقينا في لبنان، كيف شهدت اقتحام "الشبيحة" الجامعة، طاردوا الطلاب المتظاهرين الذين هرب بعضهم إلى أسطح المباني، ثم انتهت رحلة هربهم إلى الأبد.
ليست الدماء الجديدة سوى امتداد للقديمة. خلال العام الأول للثورة، قُتل أمثال زملاء زينة مِراراً وتكراراً. فتحت القوات النار على المظاهرات، وقُبض على آلاف المحتجين الشجعان واختفوا، أو ظهرت بعدها صور جثثهم هياكل عظمية جائعة مفزوعة ضمن 55 ألف صورة لقتلى تحت التعذيب، هرّبها المصور العسكري "قيصر".
حين قصف طيران النظام جامعة حلب في 15 يناير/ كانون الثاني 2013 ليسقط 52 طالباً شهيداً، لم يسمع أحدٌ بهذا الخبر العابر، لأنه تاه وسط آلافٍ وآلافٍ من أمثاله. السماء لم تكفّ عن إمطار الدماء، يا زينة.
الناشطون المدنيون يموتون أو يهربون أو يقاتلون، قد يبيع أحدهم ذهب زوجته، أو تجارة والده، ليشتري سلاحاً لكتيبةٍ تجمع شباب الحي. لكن السماء تمطر أيضاً براميل طائرات بشار عشوائياً على مناطق المعارضة، عقاب جماعي كاسح. إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح.
ثم كان المزيد من الهول على الأبواب، تواطأت إرادة الأسد وبعض داعمي معارضيه على لعنةٍ أخرى. أفرج بشار، عبر دفعتين، عن مئاتٍ من المعتقلين الجهاديين من سجن صيدنايا وغيره، ومن ضمن من أفرج عنهم أبو محمد الجولاني نفسه. كان يريد أن يكون عدوه الجولاني، لا زينة، وكذلك كانت هذه رؤية داعمين إقليميين، أن مصلحتهم مع تطرف سنيّ ضد الشيعة يمكن مدّه نحو إيران.
بهدوءٍ، في منزل بسيط في مدينة تل رفعت في ريف حلب، كان حجّي بكر، الضابط السابق في مخابرات صدام حسين، يدير خطة شيطانية مذهلة لتمهيد الأرض لصناعة تنظيم داعش. نظّم شبكة ضخمة من الجواسيس، تحدّد الأهداف، ثم تنطلق لقتل كل من قد يمثل بديلاً. وهكذا قرأنا (أو لم نقرأ!) مئات الأخبار بهذا الاقتضاب: مقتل رئيس المجلس المحلي لقرية كذا، مقتل الناشط فلان رئيس تحرير جريدة كذا. في الوقت نفسه، كان أبوعمر الشيشاني يدخل سورية فيسمع هتافات الثورة والعياذ بالله، فيتأفّف، حتى يكاد يعود أدراجه، قال إنه جاء فقط لتطبيق شرع الله، وليس للديمقراطية الكفرية، لكنه وجد ضالته بعدها، هو ورفاقه من كل أرجاء الأرض.
في مطلع 2014، تم طرد داعش من مدينة حلب، ومن شمال ريفها، بعد حرب الفصائل ضدها، وتم قتل حجّي بكر، لكن اللعنة أكبر. هناك آخرون يختلفون في التفاصيل فقط، وهكذا بدأت فصائل سلفية جهادية، في مقدمتها "النُصرة"، تلتهم فصائل محلية بدورها. جئناكم بالذبح أو الجلد أو الرجم. جئناكم لنُدخلكم الإسلام، أيها العوامّ الجُهّال، أو أيها المرتدون. رفع علم الثورة جريمة. "الديمقراطية تحت أقدامنا"، كما قال أحدهم.
الهول يتدفق من كل مكان في العالم مقاتلين وسلاحاً. مقاتلون إيرانيون وعراقيون وأفغان ولبنانيون، بدعم عسكري روسي. الطائرات الروسية لا تميز بين فصيل إسلامي أو محلي، بين مدني أو عسكري. جئناكم بالبراميل والقنابل العنقودية والصواريخ الفراغية، جئنا لنعيدكم إلى الوطن، أيها الخونة، رفع علم الثورة جريمة، "الديمقراطية تحت أقدامنا".
وبعض الرصاص سياسيّ أيضاً. هذه المرّة قرّر العالم التنازل عن التوازن في حلب، لا أميركا ولا تركيا ستدعم المقاتلين هذه المرّة. بشار يستعيد جزءاً من أهميته الدولية، بسبب مقارنته ببشاعة أعدائه الخارجين عن نظام العالم، حتى لو كان يقتل أضعافهم، لكنه يبقى داخل نظام العالم، أما تركيا فهي مشغولة في عملية درع الفرات بالتنسيق مع روسيا.
قبل أن تطلق مليشيات الأسد هجومها النهائي، شهدت المدينة اشتباكاتٍ بين فصائل مسلحة مبعثرة. وفي لحظات الغرق الأخيرة قبل أيام، شهدت المدينة هجوماً من "فتح الشام" (جبهة النصرة) ضد فصائل اعتبروها ليست إسلاميةً بما يكفي. فكيف نكسب هذه المعركة يا زينة؟ وما علاقة ما وصلنا إليه بزملائك الذين هتفوا للحرية، فأمطرت السماء بأجسادهم على ساحة الكلية؟
ليست الدماء الجديدة سوى امتداد للقديمة. خلال العام الأول للثورة، قُتل أمثال زملاء زينة مِراراً وتكراراً. فتحت القوات النار على المظاهرات، وقُبض على آلاف المحتجين الشجعان واختفوا، أو ظهرت بعدها صور جثثهم هياكل عظمية جائعة مفزوعة ضمن 55 ألف صورة لقتلى تحت التعذيب، هرّبها المصور العسكري "قيصر".
حين قصف طيران النظام جامعة حلب في 15 يناير/ كانون الثاني 2013 ليسقط 52 طالباً شهيداً، لم يسمع أحدٌ بهذا الخبر العابر، لأنه تاه وسط آلافٍ وآلافٍ من أمثاله. السماء لم تكفّ عن إمطار الدماء، يا زينة.
الناشطون المدنيون يموتون أو يهربون أو يقاتلون، قد يبيع أحدهم ذهب زوجته، أو تجارة والده، ليشتري سلاحاً لكتيبةٍ تجمع شباب الحي. لكن السماء تمطر أيضاً براميل طائرات بشار عشوائياً على مناطق المعارضة، عقاب جماعي كاسح. إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح.
ثم كان المزيد من الهول على الأبواب، تواطأت إرادة الأسد وبعض داعمي معارضيه على لعنةٍ أخرى. أفرج بشار، عبر دفعتين، عن مئاتٍ من المعتقلين الجهاديين من سجن صيدنايا وغيره، ومن ضمن من أفرج عنهم أبو محمد الجولاني نفسه. كان يريد أن يكون عدوه الجولاني، لا زينة، وكذلك كانت هذه رؤية داعمين إقليميين، أن مصلحتهم مع تطرف سنيّ ضد الشيعة يمكن مدّه نحو إيران.
بهدوءٍ، في منزل بسيط في مدينة تل رفعت في ريف حلب، كان حجّي بكر، الضابط السابق في مخابرات صدام حسين، يدير خطة شيطانية مذهلة لتمهيد الأرض لصناعة تنظيم داعش. نظّم شبكة ضخمة من الجواسيس، تحدّد الأهداف، ثم تنطلق لقتل كل من قد يمثل بديلاً. وهكذا قرأنا (أو لم نقرأ!) مئات الأخبار بهذا الاقتضاب: مقتل رئيس المجلس المحلي لقرية كذا، مقتل الناشط فلان رئيس تحرير جريدة كذا. في الوقت نفسه، كان أبوعمر الشيشاني يدخل سورية فيسمع هتافات الثورة والعياذ بالله، فيتأفّف، حتى يكاد يعود أدراجه، قال إنه جاء فقط لتطبيق شرع الله، وليس للديمقراطية الكفرية، لكنه وجد ضالته بعدها، هو ورفاقه من كل أرجاء الأرض.
في مطلع 2014، تم طرد داعش من مدينة حلب، ومن شمال ريفها، بعد حرب الفصائل ضدها، وتم قتل حجّي بكر، لكن اللعنة أكبر. هناك آخرون يختلفون في التفاصيل فقط، وهكذا بدأت فصائل سلفية جهادية، في مقدمتها "النُصرة"، تلتهم فصائل محلية بدورها. جئناكم بالذبح أو الجلد أو الرجم. جئناكم لنُدخلكم الإسلام، أيها العوامّ الجُهّال، أو أيها المرتدون. رفع علم الثورة جريمة. "الديمقراطية تحت أقدامنا"، كما قال أحدهم.
الهول يتدفق من كل مكان في العالم مقاتلين وسلاحاً. مقاتلون إيرانيون وعراقيون وأفغان ولبنانيون، بدعم عسكري روسي. الطائرات الروسية لا تميز بين فصيل إسلامي أو محلي، بين مدني أو عسكري. جئناكم بالبراميل والقنابل العنقودية والصواريخ الفراغية، جئنا لنعيدكم إلى الوطن، أيها الخونة، رفع علم الثورة جريمة، "الديمقراطية تحت أقدامنا".
وبعض الرصاص سياسيّ أيضاً. هذه المرّة قرّر العالم التنازل عن التوازن في حلب، لا أميركا ولا تركيا ستدعم المقاتلين هذه المرّة. بشار يستعيد جزءاً من أهميته الدولية، بسبب مقارنته ببشاعة أعدائه الخارجين عن نظام العالم، حتى لو كان يقتل أضعافهم، لكنه يبقى داخل نظام العالم، أما تركيا فهي مشغولة في عملية درع الفرات بالتنسيق مع روسيا.
قبل أن تطلق مليشيات الأسد هجومها النهائي، شهدت المدينة اشتباكاتٍ بين فصائل مسلحة مبعثرة. وفي لحظات الغرق الأخيرة قبل أيام، شهدت المدينة هجوماً من "فتح الشام" (جبهة النصرة) ضد فصائل اعتبروها ليست إسلاميةً بما يكفي. فكيف نكسب هذه المعركة يا زينة؟ وما علاقة ما وصلنا إليه بزملائك الذين هتفوا للحرية، فأمطرت السماء بأجسادهم على ساحة الكلية؟