28 يناير 2024
العودة خاوي القدمين
قبل أن نحلل إخفاق اللاعب العربي في منافسات كأس العالم الدائرة، حاليًّا، في موسكو، ربما كان حريًّا بنا أن نلمّ بجانبٍ من صراع ذكور الأيائل في الغابات، ففي تلك الصراعات، قد تعلق قرون أيلين اثنين، وتتشابك فلا تنفكّ أبدًا. وتتفاقم المعضلة إذا مات أحدهما، إذ تصبح الجثة عبئًا كبيرَا على الأيل الحيّ، عليه أن يتعايش معها باعتبارها جزءا جديدا من جسده، وأن تتنقل الجثة معه أينما ذهب، من دون أن يفلح بالتخلص منها. وبالطبع، تغدو حركته ثقيلة؛ لأن الجثة الثقيلة تحاصره في كل مكان.
وفي منافسات كأس العالم، لا يختلف الوضع بالنسبة للاعب العربي الذي يجرّ خلفه إرثًا ثقيلًا من الهزائم والإحباطات وانعدام الثقة بالنفس، وهي جثثٌ تحد من حركته، وتُربك قدميه كلما همّ بركل الكرة صوب الهدف، أو كلما واجه خصمًا أجنبيًّا؛ إذ سرعان ما يشعر بالدونية، وبالهزيمة المبكرة قبل حلولها، على غرار ما كان يحدث للسجناء قديمًا، حين كانت تشدّ إلى أقدامهم كراتٌ معدنيةٌ ثقيلة بجنازير سميكة، خلال الأشغال الشاقة التي يخضعون لها خارج السجون.
خطر في ذهني ذلك كله، حين سمعت عبارة العزاء من ابني، وهو يلمح النكسة التي خيمت على وجهي، عقب الخروج المذل لأربعة منتخبات عربية من المنافسات "خاوية القدمين"، إذ قال: "لا بأس يا أبي.. هي محض أربع سنوات أخرى فقط وسنرفع كأس العالم في حزيران 2022". غير أني كنت في حالة انسحاب داخلي، وأنا أرى فلول اللاعبين العرب تنسحب من أرض "المعركة" على غير هدى، معفّرة الوجوه والثياب. فهمت فقط أن عليّ أن أؤجل "النصر" أربع سنوات، وهو زمن ما يزال قصيرًا من وجهة نظر ابني، لكنه بالغ الطول لمن يجرّ أيلًا ميتًا مثلي.
وانسحبت خلفيًّا، إلى ما قبل خمسين "حزيران" من هذه النكسة الجديدة، وشاهدتني أحمل صحن اللبنة الذي أعدّته أمي، كمن يحمل "كأس النصر"، بعد أن أوصتني أن أعطيه إلى الجنود الذاهبين إلى أرض المعركة، فقد حظيت مدينتنا بمرور رتلٍ من الدبابات والمصفحات المهيأة للانخراط في حرب حزيران 1967، فتدافع أهل المدينة، لبذل كل ما في بيوتهم من مؤونة لإطعام الجند. لكن ما هي إلا أيام معدودات، حتى عادت فلول العساكر معفّرة الوجوه والثياب، إثر "النكسة" المشؤومة.
ومنذ تلك الحادثة، رحت أقيس الزمن بالفواجع العربية التي أجرّها خلفي، غير أن الحمل كان أكبر مما اعتقدت، لأنني من جيلٍ شاء سوء طالعه أن يشهد نكساتٍ عربية أخرى يطول سردها، كاجتياح لبنان وحصار بيروت، ونكستنا بمنظمة التحرير الفلسطينية التي تحولت من ثورة إلى "سلطة"، واحتلال العراق، وإجهاض ثورات الربيع العربي.. وفي خضم هذه النكسات المتلاحقة، أتقنت، مثل الأيل، لعبة انتظار الفكاك من قرون الأيل الميت بلا جدوى، ومن دون تحديد الزمن الفارق بين نكسةٍ وأخرى، حتى أصبت وأصيب معي معظم الشعوب العربية بحمّى البحث عن "أي انتصار" مهما صغر شأنه، وأنّى كانت أرض معركته، المهم أن نكون طرفًا مقاتلًا على أرض المعركة.
عمومًا، لن يفهم ابني معنى تأجيل انتظار "النصر" أربع سنوات أخرى لأبٍ لم يعد يعنيه من الزمن غير جولةٍ واحدة فقط، ترد الاعتبار للوجوه العربية المعفرة بتراب الهزائم، حتى لو اختلفت الجبهات وشروط الصراع.. المهم أن يرفع عربي "كأسًا" واحدة ينتشل معها الرؤوس العربية من هوامش التاريخ، بعد أن أخفقنا برفع كأس التحرير، وكأس "الحرية"، وكأس "الديمقراطية"، وكأس "الربيع العربي"، وكأس "الوحدة"، ولم ننجح إلا برفع كؤوس الحانات، عقب كل هزيمة مدوية.
أما الغريب بشأني، فهو أنني لم أستسغ ما قاله ابني هذه المرة، خصوصًا عندما أدركت أنه لم يعد في العمر متسع لأربع سنوات أخرى ربما، ولا أدري كيف اتجهت من فوري إلى المطبخ؛ لإعداد "صحن لبنة". ووسط ذهول الجميع خرجت حاملًا الصحن إلى الشارع، خاوي القدمين، بانتظار أن يمرّ من مدينتنا الجند الذاهبون إلى "الجبهة".
وفي منافسات كأس العالم، لا يختلف الوضع بالنسبة للاعب العربي الذي يجرّ خلفه إرثًا ثقيلًا من الهزائم والإحباطات وانعدام الثقة بالنفس، وهي جثثٌ تحد من حركته، وتُربك قدميه كلما همّ بركل الكرة صوب الهدف، أو كلما واجه خصمًا أجنبيًّا؛ إذ سرعان ما يشعر بالدونية، وبالهزيمة المبكرة قبل حلولها، على غرار ما كان يحدث للسجناء قديمًا، حين كانت تشدّ إلى أقدامهم كراتٌ معدنيةٌ ثقيلة بجنازير سميكة، خلال الأشغال الشاقة التي يخضعون لها خارج السجون.
خطر في ذهني ذلك كله، حين سمعت عبارة العزاء من ابني، وهو يلمح النكسة التي خيمت على وجهي، عقب الخروج المذل لأربعة منتخبات عربية من المنافسات "خاوية القدمين"، إذ قال: "لا بأس يا أبي.. هي محض أربع سنوات أخرى فقط وسنرفع كأس العالم في حزيران 2022". غير أني كنت في حالة انسحاب داخلي، وأنا أرى فلول اللاعبين العرب تنسحب من أرض "المعركة" على غير هدى، معفّرة الوجوه والثياب. فهمت فقط أن عليّ أن أؤجل "النصر" أربع سنوات، وهو زمن ما يزال قصيرًا من وجهة نظر ابني، لكنه بالغ الطول لمن يجرّ أيلًا ميتًا مثلي.
وانسحبت خلفيًّا، إلى ما قبل خمسين "حزيران" من هذه النكسة الجديدة، وشاهدتني أحمل صحن اللبنة الذي أعدّته أمي، كمن يحمل "كأس النصر"، بعد أن أوصتني أن أعطيه إلى الجنود الذاهبين إلى أرض المعركة، فقد حظيت مدينتنا بمرور رتلٍ من الدبابات والمصفحات المهيأة للانخراط في حرب حزيران 1967، فتدافع أهل المدينة، لبذل كل ما في بيوتهم من مؤونة لإطعام الجند. لكن ما هي إلا أيام معدودات، حتى عادت فلول العساكر معفّرة الوجوه والثياب، إثر "النكسة" المشؤومة.
ومنذ تلك الحادثة، رحت أقيس الزمن بالفواجع العربية التي أجرّها خلفي، غير أن الحمل كان أكبر مما اعتقدت، لأنني من جيلٍ شاء سوء طالعه أن يشهد نكساتٍ عربية أخرى يطول سردها، كاجتياح لبنان وحصار بيروت، ونكستنا بمنظمة التحرير الفلسطينية التي تحولت من ثورة إلى "سلطة"، واحتلال العراق، وإجهاض ثورات الربيع العربي.. وفي خضم هذه النكسات المتلاحقة، أتقنت، مثل الأيل، لعبة انتظار الفكاك من قرون الأيل الميت بلا جدوى، ومن دون تحديد الزمن الفارق بين نكسةٍ وأخرى، حتى أصبت وأصيب معي معظم الشعوب العربية بحمّى البحث عن "أي انتصار" مهما صغر شأنه، وأنّى كانت أرض معركته، المهم أن نكون طرفًا مقاتلًا على أرض المعركة.
عمومًا، لن يفهم ابني معنى تأجيل انتظار "النصر" أربع سنوات أخرى لأبٍ لم يعد يعنيه من الزمن غير جولةٍ واحدة فقط، ترد الاعتبار للوجوه العربية المعفرة بتراب الهزائم، حتى لو اختلفت الجبهات وشروط الصراع.. المهم أن يرفع عربي "كأسًا" واحدة ينتشل معها الرؤوس العربية من هوامش التاريخ، بعد أن أخفقنا برفع كأس التحرير، وكأس "الحرية"، وكأس "الديمقراطية"، وكأس "الربيع العربي"، وكأس "الوحدة"، ولم ننجح إلا برفع كؤوس الحانات، عقب كل هزيمة مدوية.
أما الغريب بشأني، فهو أنني لم أستسغ ما قاله ابني هذه المرة، خصوصًا عندما أدركت أنه لم يعد في العمر متسع لأربع سنوات أخرى ربما، ولا أدري كيف اتجهت من فوري إلى المطبخ؛ لإعداد "صحن لبنة". ووسط ذهول الجميع خرجت حاملًا الصحن إلى الشارع، خاوي القدمين، بانتظار أن يمرّ من مدينتنا الجند الذاهبون إلى "الجبهة".