بماذا تختلف الانتخابات الرئاسية لعام 2019 عن سابقاتها، على مستوى المزاج الانتخابي والظرف الوطني، وأيضاً على المستوى الشخصي؟
الديمقراطية تجربة، والشعب يصبح ديمقراطياً مع تراكم السنوات والتجارب، وتونس عرفت انتخابات حقيقية في عامي 2011 و2014، وهذه تعتبر ثالث انتخابات بعد الثورة، وبالتالي فثلاثة انتخابات ليست كثيرة في تاريخ الشعوب، ونحن بصدد تعلّم الديمقراطية والوقوف على السلبيات والإيجابيات. لذلك، أنا أتعلم منذ 2014، وأنتبه وأقدّر دور الإعلام الخطير والمال الفاسد. فالإعلام أصبح وكأنه الفاعل السياسي، والسياسيون تحوّلوا إلى عبيد للإعلام، وهي مفارقة غريبة، إذ أصبحنا نرى دخول إعلاميين للسياسة، ونكتشف دخول صاحب قناة لهذا المجال وكأنه يريد أن يتحوّل إلى زعيم. كما نكتشف شعارات للتضليل والتزييف ونشر الأكاذيب، التي تلعب دوراً في تشكيل الرأي العام، وهي تجارب نتعلّم منها.
في الثمانينيات كانت فكرتي تبدو بدائية جداً حول الديمقراطية، وهي أن يذهب الناس إلى الانتخابات ويختار الشعب من يمثله، لكن المسألة ليست بهذه البساطة. اليوم نرى أزمة داخل الأزمة، أزمة الديمقراطية والديمقراطيين والمواطنين الذين أتت إليهم الديمقراطية بسرعة ولم تحمل لهم ما يريدونه من خبز وعمل، وأصبحت لديهم شكوك ويتساءلون هل هذا ما أرادوه؟ ولكن على الرغم من ذلك، فإنّ كل ما يحصل إيجابي، فالشعب بصدد النضج والنخب والإعلام أيضاً، ونتعامل اليوم مع هذا الواقع على الرغم من سهولة التأثير على الناس، وبروز المال الفاسد وتصفية الحسابات بين السياسيين. فترذيل العمل الديمقراطي هو ما يخيف وما يجعل الناس أحياناً يحتقرون ويسخرون من بعض الساسة، ولكنها تجارب لا بدّ أن نمرّ بها.
ما هو العنوان الأبرز لحملتك لانتخابات 2019 بعد أن كانت الثورة والثورة المضادة وموضوع الهوية عناوينك في الانتخابات الماضية؟
التفاوت الطبقي والجهوي وسوء الإدارة واستيلاء أقلية فاسدة على الثروة، وبالتالي المسألة الاجتماعية والاقتصادية والطبقية هي العنوان لهذه الانتخابات. لم تعد القصة متعلقة بالهوية والحرية، بل الصراع الاجتماعي والجهوي، فالجهات المحرومة تشعر أنها قامت بالثورة ولم تجن شيئاً.
هل تعتقد أنّ الحملات الانتخابية تشهد تنافساً على البرامج؟
هذا هو المفروض، ولكن الآن المواطن التونسي أمام مشهد ضبابي، الجميع يتحدثون عن محاربة الفساد والفاسدين بمن فيهم من جاء به الفساد، وأيضاً من يحاربون بعضهم بالملفات يتحدثون عن محاربة هذه الآفة، ولكن أشعر أحياناً أنّ صوتي قد يضيع بين أصوات هؤلاء. فالجميع يتحدّث عن التنمية والحرية والتغيير المناخي الآن، بينما كنت أوّل من تحدث عن هذه الملفات، وهؤلاء ليسوا لصوص ثروات فقط، وإنما أيضاً لصوص أفكار. الوضع ليس واضحاً في ظلّ حملات تضليلية وقنوات تلفزيونية تؤثر على الملايين، وفي المقابل مرشح لا يملك سوى صورة، فكل هذا يشكّل فرقاً بين المرشحين وفي تساوي الحظوظ بينهم، ولكنها تظلّ تجارب. فالفساد ركّز على مفاصل الإعلام وهذه مشكلة وخطر سياسي حقيقي.
لاحظنا تفاؤلاً في خطابك، وتقول إنّ جزءاً من الناخبين الذين صوتوا لمنافسيك في السابق اكتشفوا أنّ برامجهم كانت مجرّد وعود، وهناك أيضاً عدد كبير من الناخبين الجدد أغلبهم من الشباب. فهل ترى أنّ هناك معطيات موضوعية تدعو إلى التفاؤل؟
أنا لا أبيع جلد الدب قبل اصطياده، ولكنْ لدي إحساس بأنّ بعض الأمور بدأت تتغيّر، أعددت للحملة الانتخابية، وأشعر بتغيّر الصورة التي شوهوني بها، لأنّ الناس سرعان ما يكتشفون الأكاذيب، وأنا قريب من المواطنين وأستطيع الدخول إلى الأحياء الشعبية من دون الاعتداء عليّ أو طردي كما قد يحصل مع البعض. الناس يقارنون ويلاحظون المؤشرات والفترات، فعندما كنا في الحكم، تصرّفنا بطريقة أخلاقية ولم يتصرّف فريق كما فعلنا نحن، ولم أضع أياً من أقاربي في السلطة. جلّ أعدائي وخصومي يشهدون أنّ كل ما قيل ضدي أكاذيب، وبالمقاربة والمقارنة الموضوعية سيتم اختيار الأفضل.
هل هناك مخاوف من تشتت الأصوات بحكم ترشّح شخصيات من العائلة الفكرية نفسها؟
توجد مخاوف وتلك طبيعة البشر. حاولنا جمع الصفّ الديمقراطي الثوري، لكن سنّة الحياة أنّ الكل يريد أن يأخذ حصته من الوجود السياسي. آمل أن يصعد شخص من الديمقراطيين للدور الثاني، ولكن المصيبة إذا صعد طرفان من معاهدة باريس (في إشارة إلى اجتماع عقد في باريس في 15 أغسطس/آب 2013 بين رئيس حركة "النهضة" راشد الغنوشي، ورئيس حركة "نداء تونس" الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي)، فأن نجد ممثلاً عن الصف الذي أنتمي إليه ومرشّحا من النظام، أياً كان، فستكون معركة فكرية برامجية جميلة، ولكن إذا حصل العكس، أي وجود شخصين من طرفي معاهدة باريس، فستكون هناك حالة إحباط.
معاهدة باريس صفقة بين قيادة "النهضة" وقيادة حزب "النداء". وأقول قيادة لأنّ جزءاً من شعب "النهضة" صوّت لي، وسيصوت جزء منهم لي هذه المرة أيضاً، على الرغم من وجود مرشح لهم، وذلك لسبب بسيط أني كنت معهم ودافعت عنهم وتعهدت باحترام المقدسات وإنفاذ قرارات هيئة الحقيقة والكرامة. ولكن معاهدة باريس كانت صفقة بين رئيس حزب ورئيس حزب آخر. وعلى الرغم من أننا حاولنا تطويق الفساد، وكنا نحاول تفادي السنوات العجاف، ولكن المعاهدة أعادت إطلاق الفساد وتمّ إقرار قانون المصالحة، وانتشر الفساد كالنار في الهشيم. وكلّ ذلك من تبعات المعاهدة، التي كانت أيضاً سبباً بإيقاف المشاريع، في وقت كانت هناك مرحلة هامة بالنسبة لاستقرار تونس، وفرصة لإصلاح التعليم والنظام الجبائي والعدالة والمشاكل البيئية. ولكن لا شيء تحقّق بعد 5 سنوات، وبالتالي لا يمكن أن نضيعّ خلال السنوات المقبلة مزيداً من الوقت.
مع ذلك كنت مستعداً لحمل نعش السبسي على كتفك؟
الموت له قدسية، فعلى الرغم من خلافي مع الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، حضرت جنازته وقرأت الفاتحة على روحه، على الرغم من أنه خصم وعدو. فالموت شيء آخر، وهذه تقاليدنا العربية، وأعتقد أنّ السبسي لعب دوراً سلمياً إبان الثورة، وأيضاً خلال الفترة الماضية، ولكن أرى كذلك أنه أضاع 5 سنوات على تونس.
على المستوى الدبلوماسي والعلاقات الدولية، كيف تقيّم العهدة التي مضت وماذا تقترح؟
لم تكن لدينا دبلوماسية واختفينا تماماً من ليبيا في الوقت الذي كان يجب أن نكون سبّاقين في وضع الحلول. فالحلول التي وجدت كانت من قبل المغرب أي من خلال اتفاق الصخيرات. اختفينا أيضاً من أفريقيا على الرغم من أنني فتحت العديد من المجالات للتعاون، ولكن لم نحقق شيئاً. كذلك اختفينا من الساحة الدولية، باعتبار أنّ الربيع العربي تراجع كثيراً. وبالنسبة لقضية سورية، فأنا قطعت العلاقات الدبلوماسية مع دمشق، وكان ذلك موقفاً سيادياً على الرغم من أنّ هناك مؤيدين للقرار وآخرين ضده، ولكن الرئيس الراحل السبسي قام بحملة شعواء ضدي معتبراً أن هذا خطأ، ووعد بإعادة العلاقات مع سورية، ولكنه لم يتمكن من ذلك ومرّت 5 سنوات ولم ينفّذ القرار. ونعود هنا إلى موضوع سيادة القرار، فمن لا سيادة سياسية له، لا يملك سيادة اقتصادية، وهذا أيضاً من تبعات معاهدة باريس. أنا أدعو للعودة إلى دبلوماسية فاعلة ونشطة ودعم الشعب الفلسطيني ورفض كل الضغوط التي تسلّط على تونس في هذا الشأن.
ماذا تقول للتونسيين، لماذا قد يصوتون لك مرة أخرى؟
سيصوتون لأنّ المرزوقي كانت لديه مشاريع كبرى يشعرون بأهميتها اليوم، ومنها مراجعة الديون وفتح الأسواق الأفريقية ومحاربة الفقر والفساد والدفاع عن الحريات، وهي الملفات التي كان جلها مفتوحاً أمام الجميع، ولكنها انقطعت. واليوم أطالب الشعب بإعادة الثقة لتنفيذ هذه البرامج والعمل على هذه الملفات وغلق قوس الـ5 سنوات التي مرت وضاعت. ولكن في حال عودة أي من أطراف معاهدة باريس، فإن الأمور قد تزداد تعقيداً وسوءاً.