الوضع الصحيّ في موريتانيا متدن بدرجات كبيرة، وغير جاهز بتاتًا لمواجهة أيّ أخطارٍ وبائية مُهدّدة لصحّة السكّان. ففي خريف عام الـ2015 مثلًا، عندما عمّت الحمى النزيفيّة، حصدت عددًا كبيرًا من الأرواح حينذاك، من سُكّان العاصمة نواكشوط أساسًا، وكانت المُستشفيات العمومية في حالةٍ يُرثى لها من حيث مستوى الجاهزيّة والعناية الصحيّة بالمرضى. والغريب في الأمر، هو أنّ وزارة الصّحة كانت في نهاية السنة تتبجّح بإعادة مبلغٍ معتبر من ميزانيّتها السنويّة للخزينة العامّة، وذلك باعتباره فائضًا لم تجد ما تصرفهُ فيه، على الرغم من الحالة الكارثيّة التي كان يغرق فيها المرضى والمُستشفيات معًا.
قتلوا جدّتي
عبد اللّه ولد الشيخ بلال، مواطنٌ ثلاثينيّ يشتغلُ سائقًا لسيارة أجرة، يروي في حديث إلى "جيل"، قصته عندما نقل جدته ذات السبعين عامًا إلى المستشفى العمومي في نواكشوط، كان ذلك قبل شهرٍ من الآن، حين قصد المستشفى عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل برفقة أمه وجدته التي كانت تشتكي من آلامٍ شديدة في الظهر.
يضيف المتحدّث: "عندما دخلنا لم يستقبلنا أحدٌ، على الرغم من أن جدتي كانت تسيرُ بصعوبةٍ بالغة، أخذتُ أبحث عن سريرٍ أو مقعدٍ نجلسها عليه أو ممرضٍ يساعدنا، لكننا لم نجد شيئًا؛ وعندما أصبحنا في جانب العناية المركزة أرشدني أهلُ مريضٍ كان ممددًا على أحد الأسرة في غرفةٍ سيئة الرائحة إلى مكان الأطباء المُداومين تلك الليلة المشؤومة، فذهبتُ فورًا إلى قاعتهم لأخبرهم أنّ لديّ مريضًا يحتاج لعنايةٍ سريعة".
يضيفُ عبد الله بنفسٍ متقطعٍ، وفي عينيْه دموعٌ غاضبة: "قدموا معي إلى حيثُ تتمدّد جدتي وبدأوا في مُعاينتها، وعلى وجوههم انزعاجٌ كبير، بعد دقائق قليلة حقنوها بإبرةً قالوا بأنها لتسكين الألم الذي تشكو منه، كانت إبرةً لا نعرفُ عنها أيّ شيءٍ، إذ إنه في أقلّ من نصف ساعةٍ على حقنها تجمّد جسدها تمامًا، ولم يبق منها سوى عينان شاخصتان إلى الأعلى، وما إن رأيتُ وأمي هذا الحال حتى ذُعرنا، وهرعنا إلى غرفتهم بسرعةٍ، فقدم إلينا طبيب آخر وأوصانا أن نأتيه بأشعةٍ لها".
يسرد المتحدّث ما وقع معه تلك الليلة بكل تفاصيلها، "حملناها مجدّدًا بعد معاناةٍ طويلة إلى الجهة الأخرى من المستشفى، وحصلنا على الأشعة المُوصى بها، فأتيناهم بها فورًا، وكانوا مستغرقين في النوم، فانتظرناهم مدة طويلة إلى غاية استيقاظهم، بينما كانت جدتي لا تزال ممددةً بجمودٍ على السرير، عندما قدِموا إلينا مُجددًا طالعوا الأشعة برتابةٍ، ثم كتبوا لنا وصفاتٍ صحيّة، وأمرونا بالرجوع بعد أسبوعين". يتوقّف عبد الله وقد داهمته حشرجة قويّة أدّت به إلى البكاء في حسرةٍ وصمت.
يتابع مُختتمًا سرد قصّته: "ونحنُ نخرج من المستشفى حاملين جدتي المسكينة كجنازةٍ جاهزة، صادفنا عند المدخل مصابًا في حادث سير يحمله أهله إلى قسم الاستعجالات، فحزنتُ لمصيره مرتيْن، مرةً على حاله وأخرى على المصير الذي سيلاقيه بين الأطباء، وكان المُستشفى يبدو لي من الخارج، بعد أن أخذتُ الوصفة العبثيّة من إحدى الصيدليّات كاحتياطٍ أخير، كما لو أنه مكانٌ لتصدير الأموات. فجّدتي رحلت بعد أقلّ من يوميْن، لقد سكّنوا ألمها حقًا، لقد قتلوها".
تغييب الحياة
قصّة عبد الله هي قصة من بين قصصٍ عديدة تُعاش يوميًا من قبل مواطنين موريتانيين بسطاء، فالمُستشفيات العامة في نواكشوط، بالنسبة للسكّان المُرتادين لها، سيئة لدرجة أنّ المرء يظنّ وظيفتها الأساسيّة هي تزويد المقابر بموتى جدد. ولعلّ ظن ذلك ليس وهمًا مُطلقًا، فهي في صميم ممارستها المجربة تكادُ لا تشفي مريضًا ولا تنقذه، بقدر ما تزيده مرضًا أو تقتله، عبر إعطائه أدويّة لا تعنيه ومنتهية الصلاحية أحيانًا، بينما هو في حالةٍ تتطلّب عناية سريعة ومركزة، يكونُ همّهم الأساسيّ إنهاء آلامه فقط.
الشاب ختاري ولد الحسين، عانى هو الآخر مرارة الإهمال الصحي، في حادثة كادت تودي بحياته قبل أشهرٍ قليلة، يذكر لـ"جيل" قصّته حينما اشتكى من حُمًى عاديّة، فقصد أحد المُستشفيات العمومية وأعطوهُ أدويّة كادت تقتله: "جئتُ أشكو من حمى بسيطة، فأعطاني الممرضون حبوبًا أدخلتني بعد وقتٍ قصير في غيبوبةٍ طويلة، فقدتُ معها القدرة على الكلام لمدة شهريْن حتّى كدتُ أفقدُ حياتي إثر ذلك، وهو ما انعكسَ سلبيًا على دراستي الجامعيّة وعطّل مسارها".
ولعلّ ممّا يعزّز الاعتقاد بأنّ هذه المستشفيات "عقيمة" صحيًا، هو ما تعيشه حاليًا من إهمالٍ عامٍ على شتى المستويات، حيثُ إنّ سمعتها السيئة انتشرت اليوم على نطاقٍ شعبيّ كبير جدًا.
مستشفيات مريضة
ضعف الجاهزيّة في هذه المُستشفيات على أكثر من صعيد، يتجلى في وجود أدوية منتهية الصلاحية، يضاف إلى ذلك غياب كفاءاتٍ طبيّة حقيقيّة، فأغلبُ الكفاءات الوطنيّة في الطبّ إما هاجرتْ للخارج أو افتتحت عياداتٍ خاصّة لها، الأمرُ الذي زادَ من تكاليف العلاج على المواطن العاديّ.
من جهته، يعتقدُ الدكتور مختار ولد وديه، في حديثه إلى "جيل"، في ما يختص بأوضاع المستشفيات العمومية، أن "هنالك عدّة أسباب، منها: قلة الكوادر الطبية وشبه الطبية، والفساد المالي والإداريّ، إضافة إلى الغياب شبه التام للتنسيق الفعّال بين المستشفيات وفروعها، وكذلك الارتجالية والارتهان السياسي في القرارات داخل المؤسّسات الصحية من جهة، ثم الأجور المنخفضة جدًا للأطباء والممرّضين".
ويضيف المتحدّث أن "الخدمة في الحالات المستعجلة تعتبر من أكبر العقبات التي تُعيق الحصول على نتائج إيجابية للحدّ من الوفيات أو المضاعفات المرضية لدى بعض المرضى، والسبب في ذلك يعود إلى غياب الإسعاف الطبي المتحرّك، وغياب خطة واضحة لاستقبال المرضى لدى ولوجهم إلى الحالات المستعجلة، والنقص المستمر والمتكرّر للأدوية والفحوصات داخل أقسام الحالات المستعجلة، وعدم وجود كادرٍ طبي وشبه طبي ذي خبرةٍ عالية في التعامل مع الحالات الاستعجالية وترك المجال لطلبة ما زالوا في طور الدراسة، أو أطباء تخرّجوا لتوّهم ولا يمتلكون الخبرة الكافية لإدارة أقسام الطوارئ لوحدهم".
على الرغم من أنّ تولّي المتدرّبين الجدد زمام الأمور في هذه المستشفيات، لا يُفسّر إلّا بتخلي الكفاءات الطبيّة عن العمل العام، إلّا أن نتائج ذلك التولي انعكست نتائجه سلبا على المواطنين البسطاء، وذلك حين تم تحويلهم إلى"فئران تجارب" تُمارس في حقهم أبشع الممارسات الإنسانيّة التي لا يخضع مرتكبوها لأدنى مساءلةٍ أو عقوبة.