01 أكتوبر 2022
انتفاضة التموين المُجهضة
لاحت أطياف الثورة المصرية في مشاهد مظاهرات الخبز، لكن ما كل ما يتمناه الثائر يدركه. كانت البداية سريعة وقوية، احتجاجات في سبع محافظات، قطعا للطرق وللسكك الحديدية وخطوط الترام، وتسييسا فوريا للهتافات التي طاول بعضها شخص الرئيس عبد الفتاح السيسي.
لكن على الفور تحرّكت السلطة لتجهض المظاهرات، وهذه المرة لم تستخدم قبضتها الحديدية، بل قفازاتها الحريرية الأكثر كفاءة. تجنبت الشرطة أي احتكاكٍ، لم يُقبض على مواطن واحد، واختفت سياسات الردع التي طالما قمعت أصغر التجمعات، وطالما ربطت هيبة الدولة بتعطيل قطارٍ أو طريق.
في الإسكندرية، أمر مدير الأمن بمنح حصة عساكر الأمن المركزي من الخبز الذي تُعده مخابز الداخلية للمواطنين، فقامت سيارات الشرطة بتوزيع الخبز على المتظاهرين، بدلاً من ضربهم بقنابل الغاز، في مشهدٍ كان يبدو حلماً خيالياً قبل سنوات قليلة.
في اليوم نفسه مساءً ظهر وزير التموين في مؤتمر صحافي بسرعةٍ غير مسبوقة، كما كانت تصريحاته غير مسبوقة أيضاً: "نحترم المواطنين، وأنا أعتذر لكل من لم يجد الخبز.. الاعتراف بالحق فضيلة، كان يجب إعادة صياغة القرار". متى كانت آخر مرة شاهد فيها المصريون مسؤولاً يعتذر على الهواء؟
شرح الوزير باستفاضةٍ سبب قراره خفض حصة ما يسمى "الكارت الذهبي"، وأعلن عودة الحد الأقصى في محافظتي الجيزة والإسكندرية، بل أصدر كروتاً ذهبية إضافية في مناطق وقعت فيها احتجاجات، ووعد باستبدال كل البطاقات الورقية، سبب المشكلة، بالبطاقات الذكية خلال شهر.
ما حدث يقدم لنا نموذجاً عن اختلاف أطراف معادلة يناير 2011. هناك تطوّر في الوعي الشعبي، حتى لدى ألدّ أعداء الثورة، ففي النهاية كانت 30 يونيو (ثورة) مضادة حقيقية، بمعنى استخدام آليات الثورة نفسها لعكس أهدافها. يشعر هؤلاء المصريون بالاستحقاق، والسيدات البسيطات اللاتي هتفن "أنا انتخبتك يا سيسي" مقتنعات فعلاً أنه وصل إلى مكانه بفضلهن.
وعي المواطن بحقوقه، وتحرّكه لانتزاعها، واحتلال المساحات العامة، من أخص ما زرعته يناير، والمقارنة تصبح واضحة للغاية، إذا تذكّرنا أزمة الخبز الأعنف عام 2008، حين توالى مصرع المواطنين أمام المخابز في الظاهرة التي سمّتها الصحافة "شهداء الخبز"، ولم يُترجم ذلك احتجاجات.
في المقابل، تطورت السلطة. لا مقارنة بين بطء (وعناد) نظام حسني مبارك الذي كان بإمكانه إنهاء كل شيء، لو أقال وزير داخليته مساء 25 يناير، وبين سرعة وذكاء التراجع أمام مظاهرات التموين. هذه ليست أول مرة يتم فيها تجاهل تطبيق قانون التظاهر، لم يلمس أحد المتظاهرين بسبب تعذيب أحد مواطنيهم في الأقصر والإسماعيلية والقاهرة، بل لم يستفز سباب الداخلية أمام معقلها مديرية أمن القاهرة أي رد فعل، بينما تُسحق بصرامة أي مظاهرة ذات تنظيم سياسي.
يبدو المشهد السياسي المصري مثل حافلةٍ ضخمةٍ تتوازن على حافة، لكنها لا تسقط بفعل كوابح عديدة. نشهد حالةً واسعةً من السخط الشعبي، بسبب الاقتصاد المتردّي. لكن، في المقابل، تقدم الدولة مبرّراً للصبر، حتى لو كان ضئيلاً جداً، لفئاتٍ واسعة بأضخم برامج الإنفاق الاجتماعي، في مقدمتها "تكافل وكرامة" للدعم النقدي المشروط الذي يدعمه البنك الدولي ودول أوروبية، وكذلك التطوير الواسع لمنظومة التموين، كما حرص النظام على عدم الوصول إلى الانفجار بلمساتٍ مثل الاعتذار الوزاري، أو السماح بهامش من التنفيس خارج إطار التنظيم السياسي.
على جانب آخر، لا يُترجم السخط الشعبي إلى حراك لأسباب عدة، منها غياب البوصلة السياسية، فلا "جمعية وطنية للتغيير" أو "جبهة إنقاذ" جديدة، كما أن تكرار التخويف من مصير سورية والعراق آتى بعض أكله. الخوف يكبح الغضب. وفي النهاية، تبقى عصا الأمن ورصاصاته خياراً إذا خرجت الأوضاع عن السيطرة، وهذه المرة الأنظمة الاستبدادية محظوظة بعصر دونالد ترامب واليمين العالمي.
قد تفقد الكوابح جدواها، وقد لا تفعل، قد تفقد السلطة عقلها، وقد لا تفعل. لكن من المؤكد أن على المعارضة ألا تكتفي بدور رد الفعل. لا بديل عن وضع رؤيةٍ مستقبليةٍ متوسطة وطويلة المدى، تدمج المعارضة بظهيرها الشعبي، تستوعب اختلافات الحاضر عن الماضي، وتحدّد السيناريوهات والإمكانات والأهداف. التغيير لا يأتي لمن ينتظر تدخل يد القدر أو حسن الحظ.
لكن على الفور تحرّكت السلطة لتجهض المظاهرات، وهذه المرة لم تستخدم قبضتها الحديدية، بل قفازاتها الحريرية الأكثر كفاءة. تجنبت الشرطة أي احتكاكٍ، لم يُقبض على مواطن واحد، واختفت سياسات الردع التي طالما قمعت أصغر التجمعات، وطالما ربطت هيبة الدولة بتعطيل قطارٍ أو طريق.
في الإسكندرية، أمر مدير الأمن بمنح حصة عساكر الأمن المركزي من الخبز الذي تُعده مخابز الداخلية للمواطنين، فقامت سيارات الشرطة بتوزيع الخبز على المتظاهرين، بدلاً من ضربهم بقنابل الغاز، في مشهدٍ كان يبدو حلماً خيالياً قبل سنوات قليلة.
في اليوم نفسه مساءً ظهر وزير التموين في مؤتمر صحافي بسرعةٍ غير مسبوقة، كما كانت تصريحاته غير مسبوقة أيضاً: "نحترم المواطنين، وأنا أعتذر لكل من لم يجد الخبز.. الاعتراف بالحق فضيلة، كان يجب إعادة صياغة القرار". متى كانت آخر مرة شاهد فيها المصريون مسؤولاً يعتذر على الهواء؟
شرح الوزير باستفاضةٍ سبب قراره خفض حصة ما يسمى "الكارت الذهبي"، وأعلن عودة الحد الأقصى في محافظتي الجيزة والإسكندرية، بل أصدر كروتاً ذهبية إضافية في مناطق وقعت فيها احتجاجات، ووعد باستبدال كل البطاقات الورقية، سبب المشكلة، بالبطاقات الذكية خلال شهر.
ما حدث يقدم لنا نموذجاً عن اختلاف أطراف معادلة يناير 2011. هناك تطوّر في الوعي الشعبي، حتى لدى ألدّ أعداء الثورة، ففي النهاية كانت 30 يونيو (ثورة) مضادة حقيقية، بمعنى استخدام آليات الثورة نفسها لعكس أهدافها. يشعر هؤلاء المصريون بالاستحقاق، والسيدات البسيطات اللاتي هتفن "أنا انتخبتك يا سيسي" مقتنعات فعلاً أنه وصل إلى مكانه بفضلهن.
وعي المواطن بحقوقه، وتحرّكه لانتزاعها، واحتلال المساحات العامة، من أخص ما زرعته يناير، والمقارنة تصبح واضحة للغاية، إذا تذكّرنا أزمة الخبز الأعنف عام 2008، حين توالى مصرع المواطنين أمام المخابز في الظاهرة التي سمّتها الصحافة "شهداء الخبز"، ولم يُترجم ذلك احتجاجات.
في المقابل، تطورت السلطة. لا مقارنة بين بطء (وعناد) نظام حسني مبارك الذي كان بإمكانه إنهاء كل شيء، لو أقال وزير داخليته مساء 25 يناير، وبين سرعة وذكاء التراجع أمام مظاهرات التموين. هذه ليست أول مرة يتم فيها تجاهل تطبيق قانون التظاهر، لم يلمس أحد المتظاهرين بسبب تعذيب أحد مواطنيهم في الأقصر والإسماعيلية والقاهرة، بل لم يستفز سباب الداخلية أمام معقلها مديرية أمن القاهرة أي رد فعل، بينما تُسحق بصرامة أي مظاهرة ذات تنظيم سياسي.
يبدو المشهد السياسي المصري مثل حافلةٍ ضخمةٍ تتوازن على حافة، لكنها لا تسقط بفعل كوابح عديدة. نشهد حالةً واسعةً من السخط الشعبي، بسبب الاقتصاد المتردّي. لكن، في المقابل، تقدم الدولة مبرّراً للصبر، حتى لو كان ضئيلاً جداً، لفئاتٍ واسعة بأضخم برامج الإنفاق الاجتماعي، في مقدمتها "تكافل وكرامة" للدعم النقدي المشروط الذي يدعمه البنك الدولي ودول أوروبية، وكذلك التطوير الواسع لمنظومة التموين، كما حرص النظام على عدم الوصول إلى الانفجار بلمساتٍ مثل الاعتذار الوزاري، أو السماح بهامش من التنفيس خارج إطار التنظيم السياسي.
على جانب آخر، لا يُترجم السخط الشعبي إلى حراك لأسباب عدة، منها غياب البوصلة السياسية، فلا "جمعية وطنية للتغيير" أو "جبهة إنقاذ" جديدة، كما أن تكرار التخويف من مصير سورية والعراق آتى بعض أكله. الخوف يكبح الغضب. وفي النهاية، تبقى عصا الأمن ورصاصاته خياراً إذا خرجت الأوضاع عن السيطرة، وهذه المرة الأنظمة الاستبدادية محظوظة بعصر دونالد ترامب واليمين العالمي.
قد تفقد الكوابح جدواها، وقد لا تفعل، قد تفقد السلطة عقلها، وقد لا تفعل. لكن من المؤكد أن على المعارضة ألا تكتفي بدور رد الفعل. لا بديل عن وضع رؤيةٍ مستقبليةٍ متوسطة وطويلة المدى، تدمج المعارضة بظهيرها الشعبي، تستوعب اختلافات الحاضر عن الماضي، وتحدّد السيناريوهات والإمكانات والأهداف. التغيير لا يأتي لمن ينتظر تدخل يد القدر أو حسن الحظ.