بلاد خاوية إلا من عروشها

03 مارس 2019
+ الخط -
كان علينا أن ندرك، ونحنّ نعدّ له القبر، أن "الرجل المريض" لن يموت، بل سيتعافى يومًا، غير أننا تنازعنا تركته، وهو على قيد الحياة، وفررنا بما اعتقدنا أنها "ثروة" لن تتكرّر.
أتحدث عن تركيا التي خلع الغرب على إمبراطوريتها هذا اللقب قبل نحو قرن ونصف القرن، وأقنعونا به، كي نجرّد عليها الثورات، الكبرى والصغرى، لنفرّ بدويلاتنا الهشّة، ونرفع عليها راياتنا التي سرعان ما مزّقتها الريح.
أما اليوم، فها نحن نجرّد ثورات هجرة مضادّة إلى تركيّا، للفوز بشرف الحصول، ولو على إقامة فيها، بعد أن اكتشفنا أن "الرجل المريض" لم يكن سوى نحن لا هي. وثمّة مدن في تركيا أصبحت اليوم ذات غالبية عربية، من سوريين وعراقيين وأردنيين، ومن المغرب العربي، فعن أي شيءٍ يبحث هؤلاء؟
ربما يقال إنهم يبحثون عن العمل، وفي ذلك ضربٌ من الصحة، فتركيا أصبحت تتوفر على فرصٍ كبيرة للعمل المجزي، وهو ما تفتقده أفواج العاطلين عن العمل في "بلاد العرب أوطاني"، إضافة، بالطبع، إلى امتيازاتٍ لا يحلم العرب بها في "أوطانهم"، كأسعار الشقق الزهيدة، والتأمين الصحي والدراسة المجانيّين.. وذلك كله مقابل الحصول على إذن إقامة، لا يتطلّب من المهاجر العربي أزيد من عقد إيجار سنويّ فقط.
ذلك كله جائز، غير أنني أرى أن أسباب ثورة الهجرة المضادة إلى تركيا أوسع من ذلك، خصوصًا إذا علمنا أن ثمّة دولًا أخرى تقدّم مثل هذه الإغراءات وأزيد، ويمكن القول إنها، بالدرجة الأولى، "ثورة" على الأنظمة الحاكمة العربية، تتخذ شكل الهجرة إلى "خصم" قديم جديد لهذه الأنظمة التي تناصب تركيا العداء، وفي مقدمتها مصر والسعودية والإمارات، وكأني بالمهاجرين العرب يعلنون اصطفافهم إلى جانب تركيا في هذه الحرب الباردة مع تلك الأنظمة التي لم تبرح تحوك المؤامرات الانقلابية والاقتصادية والسياسية على تركيا، بنظامها الحالي الذي يفتح ذراعيه للمهاجرين العرب برحابة صدر.
وفي "الثورة الجديدة"، يهرب المهاجرون، أيضًا، للنجاة بفلول كرامتهم، من أنظمةٍ جرّدتهم من سائر حقوقهم، إلى أمٍّ أصبحت تقيم وزنًا لمفردات الكرامة والأنفة واحترام الحقوق، مغلفةً بثوبٍ إسلاميّ معتدل، يوازن بين الأصالة والمعاصرة، ويتوافق مع ميول المهاجرين الدينية، إضافة إلى تلبية حنين تاريخيّ قديم للوحدة التي لم يتمكّنوا من تحقيقها في بلدانهم التي تعتبر الحدود فيها خطوطًا فوق بنفسجية، لا يجرؤ "معتوهٌ" على خدشها.
الأهم من هذا وذاك أن المهاجرين يحملون في متاعهم ندمًا تاريخيًّا وجغرافيًّا، ما كان له أن يؤرّقهم في الحاضر، لولا أنهم اكتشفوا مبلغ الخديعة التي وقعوا بها، حين أطلقوا رصاص التفتيت الجغرافي ضدّ إمبراطوريتهم القديمة، فأدركوا متأخرين، أنهم إنما كانوا يُطلقون الرصاص على أنفسهم، قبل أن يطلقوه على الجنود الأتراك، وعلى قوافل الحجيج القادمة من الديار العثمانية، بعد أن زيّن الحلفاء لهم فضائل "الاستقلال" الذي ما كان إلا استقلالاً عن كرامتهم وعروبتهم وعزتهم.
في المحصلة، ما يفعله المهاجرون ليس هجرة، بل عودةً إلى ما يعتبرونه "بلدهم"، لا منفاهم، ويصحّ عند هذا أن يُسمّوا العائدين، وليس المهاجرين؛ ذلك أن المنفى قد يكون في الوطن، أيضًا، حين يدفع أبناءه للعيش في هوامش الكينونة والعزلة، وتسوّل أبسط أشكال الحقوق الإنسانية الأساسية.. فيهرب العائدون إلى من يحقن هاماتهم بمصل الشموخ والكبرياء الغاربة، ضدّ سائر صنوف الذلّة التي سامتهم بها أنظمتهم وحلفاؤها، من إسرائيل إلى أميركا.. يعودون ليصوّبوا خطأ تاريخيًّا وجغرافيًّا اقترفه أسلافهم، وكرّسته أنظمتهم، وتحمّلوا هم تبعاته قرنا ونيّف.
على العموم، قد لا يكون بعيدًا ذلك اليوم الذي تصبح فيه الأوطان العربية برمّتها خاويةً إلا من "عروشها"، وعندها ربما تضطرّ تلك العروش إلى إنشاء "وكالة للهجرة" على غرار ما فعلته الصهيونية؛ لاستقطاب شعوبها من تركيا وغيرها، غير أني على يقين أنها لن تجد مهاجرًا عربيًّا واحدًا على استعداد ليكرّر خطأ أسلافه ثانية، ويقبل العودة إلى بلاد "الرجل المريض".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.