بلقيس، تلك الملكة الغامضة، تضاربت الروايات حول سيرتها، واختلفت السرديات التاريخية، وأيضاً تنوّعت الرسوم. فهل هي ملكة سبأ اليمنية أم إنها ملكة أثيوبيا المعروفة أيضاً بماكيدا؟
الروايات والأساطير كثيرة حولها، إلاّ أنه لم يعثر حتى الآن على أثر أركيولوجي واحد يثبت وجودها التاريخي.
يرد ذكرها في العهد القديم وفي القرآن وفي العديد من النصوص القديمة، ولكن تختلف روايات كلّ منها. فهي بلقيس اليمنية، بنت الهدهد من حِمير. "ملكة سبأ العذراء"، تُقدّم أحياناً على أنها تزوجت الملك سليمان الحكيم. وفي أحيان أخرى، تُقدّم على أنها عشيقته، التي أنجبت له ولداً غير شرعي اسمه منليك، عاد بعد عشرين عاماً ليلتقي بوالده، فيحصل على الاعتراف به ثم يصبح ملكاً للحبشة.
ملكة عابدة لإله الشمس، أم ممثلة للإله اليمني "إيل مقه" أو "إيل القوي" أو "إيل الجبّار" على الأرض؟
تبدو شخصية بلقيس من خلال النصوص المكتوبة عنها وعن تاريخ مملكتها، وكأنها تحمل بذور الشرّ والخير معاً. فهي الملكة العظيمة والقوية التي عرفت بلادها الازدهار إبّان حكمها، وهي أيضاً ابنة أخت الجان الذين ورثت عنهم قدراتهم الخارقة الغامضة، وعاشت طفولتها معهم في الصحراء، قبل تولّيها عرش سبأ.
رغم اختلاف الروايات حولها، إلاّ أنها جميعها اتفقت على أن لقاء جمعها بالملك سليمان. لقد ذهبت إليه في موكب عظيم محملة بهدايا من الذهب والمر والبخور (الهدايا نفسها التي قدمها ملوك المجوس للمسيح الطفل)، ومحمّلة، إضافة إلى ذلك، بالكثير من الأحجيات والمبارزات الذهنيّة. ويبدو هنا لقاء بلقيس بسليمان وكأنه امتحان له. فقد كان عليه أن يجيب عن أسئلتها كمن يريد أن يثبت لها حكمته لكي يليق بها.
في إحدى الروايات عن لقاء بلقيس بسليمان، نجد تفصيلاً غير بريء على الإطلاق، يُظهر وجهة النظر الرافضة لقوّة النساء وقدرتهنّ على الحكم، الذي يفترض أنه حكر على الرجال.
فحين وصلت بلقيس إلى قصر سليمان، ظنّت أن المرمر المصقول في الباحة أمام عرشه هو بركة ماء، فرفعت ثوبها لتعبر من دون أن تبلّله، فبانت ساقاها. قال لها سليمان في تلك اللحظة إنها جميلة كامرأة، لكنّ الشعر على ساقيها بشع، ويجعلها شبيهة بالرجال، وتذكر بعض الروايات أن "شعر ساقيها كان مثل شعر الماعز".
وفي ذلك، بلا شك، تحقير لامرأة يروى عنها أنها كانت من أجمل نساء الأرض. فطريقة التعليق المحقّر والمهين لكثافة شعر ساقيها يحوّلها إلى امرأة "مسترجلة"، فاقدة لأنوثتها، بل وحتى إلى شبيهة للشيطان، لأنّ خاصيّة الشعر الكثيف "كشعر الماعز" على الساقين مرتبطة بالشياطين، مع الأخذ بالاعتبار أن أخوالها هم من الجان، وأن سليمان مسلّط عليهم بفضل قوّة إلهية.
لا شكّ أنّ الروايات المختلفة تعني رسوماً ومنمنمات مختلفة. فكيف هي إذاً صورة بلقيس؟ هل هي واحدة من أجمل نساء الأرض أم أنها امرأة مسترجلة؟ هل أنّ السلطة التي امتلكتها تلك الملكة والندّية التي واجهت بها الرجال، جعلت منها شرّاً مطلقاً وغواية كاملة في آن معاً؟
لقد ألهمت صورة بلقيس الكثير من الأعمال الفنّية البحتة أو ذات الطابع الديني، في مناطق وثقافات مختلفة وعلى مدى أزمان متعاقبة. نراها في المنمنمات الإسلامية، وفي الأيقونات أو في الجداريات المسيحية، وفي لوحات عصر النهضة، وتنتشر صورتها من آسيا إلى أوروبا مروراً بإفريقيا، خصوصاً في الفنّ الأثيوبي.
في لوحة لرفاييل، أحد أهم فناني عصر النهضة، نرى بلقيس بملامح خلاسية، تقف بين أتباعها المحملين بالهدايا تحت عرش سليمان. موقعها في مساحة اللوحة في مستوى أدنى منه. تتّجه إليه وكأنها تطلب حمايته، وهو يميل نحوها برأفة من فوق، وكأنه يأخذها تحت جناحه.
هنا، في لوحة رافاييل لا نديّة بالتأكيد بين الاثنين. وهذا الاختلاف بالمرتبة نراه أيضاً في لوحة أخرى من لوحات عصر النهضة لبيرو ديللا فرانشيسكا، تبدو فيها بلقيس تصافح سليمان شبه منحنية في حضرته، يتجه نظرها نحو الأسفل، بينما يرنو هو إليها من فوق.
في المنمنمات الإسلامية نرى بلقيس أكثر غواية وأنوثة وبملامح آسيوية. في لقائها مع سليمان، تحيط بهما مجموعات من الجان والملائكة، فيبدو الحدث الذي يجمعهما سحرياً متخيّلاً وخرافياً، لا حدثاً واقعياً أو تاريخياً.
في الفنّ والتراث الإثيوبي، لبلقيس حضور من نوع آخر. كأنه الفنّ الذي يليق بها. كأنه فعلاً منبتها الأصلي. فنراها مثلاً مرسومة كقديسة في أيقونة على الطريقة التقليدية لرسم الأيقونات المسيحية، مع كتابة اسمها إلى جانب رسمها "ماكيدا المقدّسة".
وفي أيقونة أخرى، نراها جالسة إلى جانب سليمان، تشاركه الحديث وإشارات الأيدي بطريقة يتساوى فيها الملك بالملكة. ومن أكثر الأعمال الفنية استحضاراً لقوّتها وتفرّدها، فهي إحدى الجداريات التي تظهر فيها بلقيس بملامحها السمراء وشعرها الأسود وعينيها الواسعتين، تركب حصانها الأسود كواحدة من الفرسان القدّيسين المحاربين، تذكّرنا بطريقة رسم القديس جاورجيوس مثلاً. تصور هذه الجدارية رحلة بلقيس للقاء سليمان.
ولا يمكن لنا أن نتخيل هذا اللقاء يتم على الطريقة التي صورها رافاييل أوغيره من فناني عصر النهضة، بعد رؤية اندفاع الفارسة بشالها الأحمر المتطاير مع الريح. نتخيلها تصل لعند سليمان فتقفز عن حصانها وتدخل عليه محملة بغبار الرحلة لتمتحنه. لن ترفع ثوبها خوفاً من البلل، وإن شعر هو بتهديد لرجولته أمام تمرد هذه الملكة الفارسة، فأشار إلى أنها "مسترجلة"، ستضحك بلقيس ولن تأبه لذلك... لأنها ملكة سبأ العظيمة.
* فنانة تشكيلية من لبنان