خطوة الانسحاب كانت الجبهة الشعبية لقوى الثورة الإسلامية (جمنا)، والتي مثّلها كلٌّ من قاليباف ورئيسي رسمياً، قد أعلنت عن احتمال اللجوء إليها في وقت سابق، بل يمكن القول إنها كانت الخطة الأصلية لهذه الجبهة التي اختارت خمسة أسماء من أعضائها للترشح للانتخابات الرئاسية في دورتها الثانية عشر، وتم التوافق على أن ينسحب مرشحو الجبهة تباعاً لصالح واحد فقط هو من سيحقق لقب الأكثر شعبية وفق استطلاعات الرأي في النهائيات، وسيكون قادراً على مواجهة المنافس المعتدل. وبالفعل سجل أربعة من أعضاء الجبهة الذين تم اختيارهم أسماءهم في وزارة الداخلية الإيرانية الشهر الماضي، وأعطت لجنة صيانة الدستور الأهلية لاثنين فقط، وجرت الأمور نحو اختيار رئيسي ممثلاً نهائياً.
كان قاليباف شرساً للغاية خلال فترة الدعاية الانتخابية، ويمكن القول إنه استطاع أن يساعد رئيسي في شد الشريحة المحافظة من خلال الاتهامات الصريحة والانتقادات المباشرة والتي وجهها لروحاني، ولمسانده الإصلاحي اسحاق جهانغيري، الذي أعلن أمس انسحابه من الرئاسيات لصالح حليفه المعتدل منذ أن وصل إلى وزارة الداخلية لتسجيل ترشحه.
لكن انسحاب قاليباف في هذا التوقيت، فتح الباب أمام الجبهة المعتدلة الإصلاحية لتوجيه انتقادات له، فهو من طالب جهانغيري خلال المناظرات التلفزيونية بعدم "تضييع وقت بقية المرشحين" على اعتبار أنه شارك في السباق الانتخابي لمساعدة روحاني لا للوصول إلى الرئاسة بحسب رأي قاليباف. ورأى الإصلاحيون أن هذا الأخير كان في ذات الموقع في الحقيقة.
وفي السياق، عنونت صحيفة "اعتماد" الإصلاحية على صفحتها الأولى في عددها الصادر أمس الثلاثاء: "شارك في الدعاية لشهر ثم غادر!"، منتقدة ما جاء على لسان قاليباف طيلة هذه الفترة، ومنوهة إلى أن هذه هي المرة الثالثة التي يخوض فيها قاليباف استحقاقاً رئاسياً من دون أن يصل لنتيجة، ولعلها أكثر مرة يستشعر فيها بالخطر على نفسه، حسب تعبير الصحيفة.
ورأت صحيفة "اعتماد" أن تصريحات روحاني، التي جاءت على لسانه خلال المناظرة الأخيرة يوم الجمعة الماضي، هي التي جعلت قاليباف أضعف من رئيسي بكثير، إذ اتبع عمدة طهران طيلة فترة الدعاية الانتخابية أسلوباً هجومياً، كما نشر وثائق تتهم منافسيه بملفات فساد اقتصادية، فرّد روحاني أخيراً إن لديه وثائق تثبت تورط قاليباف بمسائل تعود لعام 2005، كما قال إن عمدة طهران هو من دعم التعامل بعنف مع طلاب الجامعة حين كان قائداً للشرطة في سنوات سابقة، وهو ما حول جبهة المحافظين من تكتيك الهجوم إلى الدفاع.
أما على الضفة المحافظة، فأشاد الجميع بخطوة قاليباف، معتبرين أنها تصبّ لصالح وحدة وانسجام المحافظين، فالرجل الذي خاض السباق حتى هذه المرحلة بكل شراسة قرر أن ينسحب لصالح رئيسي، الذي شكر بدوره كل داعميه واعداً قاليباف بأن يكون جزءاً من حكومته المقبلة في حال وصل إلى الرئاسة.
ولم تتوقف تداعيات قرار قاليباف عند توحيد جهود المحافظين قبل أيام من عملية الاقتراع، بل جعل الاحتمال أكبر بأن النتيجة ستحسم من مرحلة واحدة بحسب البعض، إذ أن استمراره في خوض السباق إلى جانب رئيسي خلال يوم الاقتراع، كان من الممكن أن يوزّع الأصوات بين المحافظين نفسهم، في وقت استبعد فيه كثر حصول روحاني على نسبة النصف+واحد، وهي التي تؤهل الرئيس الإيراني الحالي للفوز بولاية ثانية من الدورة الأولى.
وفي المحصلة، تحولت الأمور إلى معركة مباشرة بين "خادم الشعب" و"الشيخ الدبلوماسي" ما يعني أن المهمة لن تكون سهلة كثيراً على كليهما، وقد أدت هذه التكتيكات إلى تشديد الصراع، بين الجبهة المحافظة من ناحية، والجبهة المعتدلة الإصلاحية من ناحية أخرى.
واقتصر السباق الآن بين رئيسي الذي يركز على قاطني القرى والأرياف بالدرجة الأولى وحتى على الطبقة الفقيرة في المدن، وبين روحاني الذي يعتمد على الاتفاق النووي كإنجاز انطلق منه لتحسين مسائل الاقتصاد، فالمواطن الإيراني معني بالدرجة الأولى بوضعه المعيشي ومن بعد ذلك يهتم بمسائل السياسة الخارجية للرئيس.
ويدرك رئيسي تماماً أن للاتفاق النووي منتقديه في الداخل، هؤلاء هم من يرفضون بالكامل تطبيع العلاقات مع الغرب، ولا يثقون أساساً بسياسة الانفتاح. أما روحاني فيعتمد في خطابه على الاتجاه المعاكس، ويرى في الانفتاح على الخارج وسيلة لحل غالبية مسائل الداخل المعيشية أولاً، وسبيلاً لتحقيق عزة وكرامة الإيرانيين ثانياً. كما يقدم نفسه على أنه من فاوض ست قوى كبرى بكل جرأة وتوصل لاتفاق يصفه بالمُرضي.
ويحظى هذا الخطاب بشعبية بين بعض الإيرانيين، خصوصاً بين الفئة الشابة، وقد يوصله للرئاسة مجدداً في حال قرر الإيرانيون منحه فرصة ثانية على الرغم من الإخفاقات الاقتصادية.