يعدّ المفكّر والفيلسوف الفرنسي آلان باديو من الفلاسفة النادرين في الاهتمام بالمسرح وحبّه والكتابة عنه (أمضى أحد عشر عامًا في ترجمة "جمهورية أفلاطون" التي عرضت مؤخرًا في مهرجان أفينيون العالمي للمسرح) فضلًا عن كتاب أصدره عام 2013 بعنوان محبّ "في مديح المسرح". يخبّر آلان باديو في حواره المنشور مؤخرًا في صحيفة "لو موند" الفرنسية، عمّا قدح شرارة شغفه بالمسرح؛ أستاذه في المدرسة. ويصف أهمية هذا اللقاء كما يأتي: قبل أي شيء، فقد التقيت، في الواقع، بأستاذ اللغة الفرنسية. كان هو الوسيط الحيّ للقاء مع المسرح، وهذا بالضبط ما يشرحه أفلاطون في "المأدبة" حيث يعرض كيف أن الفلسفة ذاتها تعتمد دائمًا على اللقاء مع أحدهم، وأن هذا هو معنى القصة الرائعة التي يخبّرها إلسيبياد (التلميذ) عن لقائه بسقراط".
ويتذكر باديو بدقّة كيف أدّى، صغيرًا، الدور الرئيس في مسرحية موليير "ألاعيب سكابان": "أتذكّر عواطفي المضطربة في اللحظة التي رميت نفسي فيها في ضوء الخشبة.... نعم، من أجل القيام بالمسرح يجب توفّر الإرادة، ويجب تجاوز الصعوبة القصوى في أنك هنا، وحيدٌ في قلب الضوء، أمام الجميع، مع تلك الرهبة التي هي فيك، ثمّة ذاك الشيء الذي يتمرّد ضدّ الخطر".
تبدو كلمات باديو الدقيقة أعلاه، معبّرة بشكل عميقٍ وبسيط في آن واحدٍ، لا عن لحظة الوقوف على الخشبة فحسب، بل عن أمرٍ آخر، ما كان ليخطر في بال الفيلسوف. كذا من شأن كلماته أن تجد طريقها إلى سورية.
إذ إن توفّر الإرادة وتجاوز الصعوبة القصوى بأن المرء وحيد، هما على الأرجح ما جالا في خاطر عالم الآثار السوري الدكتور خالد الأسعد، وهو يواجه، بعد اعتقاله منذ شهر يوليو/ حزيران، قتْله البربري على يد داعش، رافضًا الكشف عن كنوز مدينة تدمر، كما خبّرت إحدى الروايات، أو بسبب "وشاية" عنه لدى داعش في رواية أخرى، أو نتيجةً للأمرين معًا ؛ الوشاية ثم رفض "التعاون" مع داعش.
اقرأ أيضاً: تدمر السماوية
العقاب العلني لعالم الآثار القتيل، بقطع الرأس بالسيف، وصلب الجثّة على عامود مع لائحة "الاتهامات" ليراها كلّ الناس، ديدنُ داعش الذي يعلم تمامًا كيف "يسوس" الجماهير والكاميرا، كسياسي محنّك معاصر، وكيف يستميل الإعلام في العالم، الذي، والحقّ يُقال، يميلُ من تلقاء نفسه صوب داعش. لكأن داعش مسرحية، والإعلام جمهورها. فالقتل العلني، لا يتمّ من دون "لاعِب مقنّع" هو السيّاف، شيءٌ يذكّر بالأقنعة المسرحية، فضلًا عن الكاميرا، أداة داعش الأثيرة، ووسيلتها لبثّ الرعب لدى "الجمهور" من طريق الصورة، ثابتةً أكانتْ أم متحرّكة، مباشرة حيّة أم مسجلّة.
وإن كانت "عناصر" مسرحية مكتملة الأركان موجودة في هذا المشهد الجنائزي، إلا أنّ أمرًا آخر يطلّ من "المعنى". ففي خسارة عالم آثار مرموق، كرّس عمره للبحث والعمل ما يذكّر بما حصل ويحصل في العراق، حيث تمّ تجريف البلد برّمته، وقتل أساتذة الجامعات والعلماء وكل من يعمل في حقلي المعرفة والتعليم، (أو دفعهم إلى المنافي)، الأمر الذي أدّى إلى إفراغ بلاد الرافدين من "عقلها"، ولعلّه أيضًا من الأسباب الرئيسة التي منعت وتمنع توقّف المأساة العراقية الممتدّة منذ أعوام طويلة.
تأمّل المعنى في قتل عالم الآثار السوري لا يعني البتة المفاضلة بين مقتله ومقتل السوريين المستمرّ منذ أربعة أعوام ونيّف. وللأسف فإن "مقارنات" و"مفاضلات" مماثلة تسري كالهشيم في مواقع التواصل الاجتماعي، لا من أجل الوقوف في صفّ الضحية، بل من أجل إدانة كلّ طرف لـ آخره، فيتحول "النقاش"، إلى ساحة لتبادل الاتهامات وتبادل "وجهات النظر"، وطرح السؤال البليد: من الأكثر إجرامًا؟ ولماذا إدانةٌ هنا وصمتٌ هناك؟ وفي خضم هذا كلّه تُنسى الضحية، سواء أكانت بالمفرد أم بالجمع، وكأن لم تكن.
الضحية كانت وحدها في مواجهة مصيرها الرهيب، لكنها لم تكن تعلم أن جثّتها ستكون أيضًا وحدها لا في مواجهة الكاميرا فحسب، بل في "مواجهة" ذلك النقاش المنشغل بنفسه. شيءٌ يشبه مرض أهل الإعلام والسياسيين، المنشغلين على الدوام بـ مخاطبة الجماهير، وإبداء "الرأي" أمام الكاميرا باستمرار، المتدرّبين على التحدّث أمامها، بطريقة يغدون فيها أقرب إلى الممثلين المصابين بـ تناذر الكاميرا.
ويتذكر باديو بدقّة كيف أدّى، صغيرًا، الدور الرئيس في مسرحية موليير "ألاعيب سكابان": "أتذكّر عواطفي المضطربة في اللحظة التي رميت نفسي فيها في ضوء الخشبة.... نعم، من أجل القيام بالمسرح يجب توفّر الإرادة، ويجب تجاوز الصعوبة القصوى في أنك هنا، وحيدٌ في قلب الضوء، أمام الجميع، مع تلك الرهبة التي هي فيك، ثمّة ذاك الشيء الذي يتمرّد ضدّ الخطر".
تبدو كلمات باديو الدقيقة أعلاه، معبّرة بشكل عميقٍ وبسيط في آن واحدٍ، لا عن لحظة الوقوف على الخشبة فحسب، بل عن أمرٍ آخر، ما كان ليخطر في بال الفيلسوف. كذا من شأن كلماته أن تجد طريقها إلى سورية.
إذ إن توفّر الإرادة وتجاوز الصعوبة القصوى بأن المرء وحيد، هما على الأرجح ما جالا في خاطر عالم الآثار السوري الدكتور خالد الأسعد، وهو يواجه، بعد اعتقاله منذ شهر يوليو/ حزيران، قتْله البربري على يد داعش، رافضًا الكشف عن كنوز مدينة تدمر، كما خبّرت إحدى الروايات، أو بسبب "وشاية" عنه لدى داعش في رواية أخرى، أو نتيجةً للأمرين معًا ؛ الوشاية ثم رفض "التعاون" مع داعش.
اقرأ أيضاً: تدمر السماوية
العقاب العلني لعالم الآثار القتيل، بقطع الرأس بالسيف، وصلب الجثّة على عامود مع لائحة "الاتهامات" ليراها كلّ الناس، ديدنُ داعش الذي يعلم تمامًا كيف "يسوس" الجماهير والكاميرا، كسياسي محنّك معاصر، وكيف يستميل الإعلام في العالم، الذي، والحقّ يُقال، يميلُ من تلقاء نفسه صوب داعش. لكأن داعش مسرحية، والإعلام جمهورها. فالقتل العلني، لا يتمّ من دون "لاعِب مقنّع" هو السيّاف، شيءٌ يذكّر بالأقنعة المسرحية، فضلًا عن الكاميرا، أداة داعش الأثيرة، ووسيلتها لبثّ الرعب لدى "الجمهور" من طريق الصورة، ثابتةً أكانتْ أم متحرّكة، مباشرة حيّة أم مسجلّة.
وإن كانت "عناصر" مسرحية مكتملة الأركان موجودة في هذا المشهد الجنائزي، إلا أنّ أمرًا آخر يطلّ من "المعنى". ففي خسارة عالم آثار مرموق، كرّس عمره للبحث والعمل ما يذكّر بما حصل ويحصل في العراق، حيث تمّ تجريف البلد برّمته، وقتل أساتذة الجامعات والعلماء وكل من يعمل في حقلي المعرفة والتعليم، (أو دفعهم إلى المنافي)، الأمر الذي أدّى إلى إفراغ بلاد الرافدين من "عقلها"، ولعلّه أيضًا من الأسباب الرئيسة التي منعت وتمنع توقّف المأساة العراقية الممتدّة منذ أعوام طويلة.
تأمّل المعنى في قتل عالم الآثار السوري لا يعني البتة المفاضلة بين مقتله ومقتل السوريين المستمرّ منذ أربعة أعوام ونيّف. وللأسف فإن "مقارنات" و"مفاضلات" مماثلة تسري كالهشيم في مواقع التواصل الاجتماعي، لا من أجل الوقوف في صفّ الضحية، بل من أجل إدانة كلّ طرف لـ آخره، فيتحول "النقاش"، إلى ساحة لتبادل الاتهامات وتبادل "وجهات النظر"، وطرح السؤال البليد: من الأكثر إجرامًا؟ ولماذا إدانةٌ هنا وصمتٌ هناك؟ وفي خضم هذا كلّه تُنسى الضحية، سواء أكانت بالمفرد أم بالجمع، وكأن لم تكن.
الضحية كانت وحدها في مواجهة مصيرها الرهيب، لكنها لم تكن تعلم أن جثّتها ستكون أيضًا وحدها لا في مواجهة الكاميرا فحسب، بل في "مواجهة" ذلك النقاش المنشغل بنفسه. شيءٌ يشبه مرض أهل الإعلام والسياسيين، المنشغلين على الدوام بـ مخاطبة الجماهير، وإبداء "الرأي" أمام الكاميرا باستمرار، المتدرّبين على التحدّث أمامها، بطريقة يغدون فيها أقرب إلى الممثلين المصابين بـ تناذر الكاميرا.