28 يناير 2024
جثة بين الحقائب
أنا الحاجة يسرى النجار من غزة، جثة بين الحقائب على معبر رفح.. أتذكرونها؟ أنا من كافحت ألف موت وموت، ولم أهزم إلا على هذا المعبر؛ لأنني لم أشأ أن أحارب جندياً عربياً يعتقد أن شرفه العسكري الوحيد يكمن في الحفاظ على بكارة حدوده مغلقة في وجه الفلسطينيين فحسب، أما فضّ هذه البكارة وتمزيقها ببساطيل وبساطير العالم كله، فذاك اختراق لا يمسّ شعرة من شرفه العسكري البائس، بل هو على استعداد للتلويح بمنديل الدم النازف من البكارة وإطلاق زغاريد "الفتح"، ابتهاجاً باختراقها من جموع الفاتحين.
أنا الحاجة يسرى النجار، قهرت غزاتي كلهم، حين كان العدو واضحاً وضوح شمس "المتوسط" على مراكب صيادي غزة، وهم يغنون "الهيلا هيلا"، ويقبضون على السمك بشباكهم المجدولة بالغيظ والحصار، رجوت أولادي وأحفادي أن يدعوني وشأني خلال مرضي الأخير، وأن لا يفكّروا في اصطحابي خارج صحرائي الحانية للعلاج، قلت لهم: "العروبة دائي وغزة دوائي.. لا أريد حبة أسبرين أو حقنة تخدير أخرى من أي بلد عربي يعيش الإغماء الطوعي وفقدان الوعي القومي، كلما ذكرت فلسطين، لا أريد حبوبهم وحقنهم وأمصالهم وأنابيبهم التي لم تعد تضخ غير النفط المرسل إلى تل أبيب". لكن أولادي لم يسمعوا استغاثاتي، لأنهم جيل جديد لم يختبر العروبة في أسفل درك من العار.
أنا الحاجة يسرى النجار التي لفظت أنفاسها الأخيرة بين الحقائب على معبرٍ لم يعد متاحاً ولا حتى لعبور الموتى، شاء سوء طالعي أن أخالف وصية محمود درويش، حين صرخ بالعرب: "وطني ليس حقيبة.. وأنا لست مسافراً"، فكان أن دفعت حياتي بين الحقائب التي أصبحت وطناً لنا، ونحن نتنقل بين الحدود والمطارات، ثم غدت كفناً نموت فيه، وأحيانا تصل الطائرات ولا نصل نحن؛ لأن الحقائب التي تحملنا أخطأت عنوان الوطن.
أنا الحاجة يسرى النجار، لست أحمّل أحداً مسؤولية موتي على المعابر، لأنني أدرك تماماً أن من فرّط في وطني ووطنه معاً، مثل عبد الفتاح السيسي وغيره، لن يضيره أن تلقى عليه مسؤولية موت مسنّة مثلي، تضاف إلى سجل ضحاياه من أبناء شعبه في ميدان رابعة العدوية وسواه، أو بالأحرى، هو ليس أهلاً لتحمّل أي مسؤولية وطنية أو عربية أو حتى أدبية، ولا يشرفني، والحال هذه، أن يتحمل زعيم كهذا مسؤوليتي أنا التي لم تنخفض هامتي أمام دبابات إسرائيل وطائراتها وبوارجها وغاراتها اليومية.
أنا الحاجة يسرى النجار، تسعة وستون عاماً، أهدي سلامي لغزة التي كنت أتمنى أن تحضن آخر أنفاسي، كما احتضنت أولها وأوسطها، كي لا يمنّ علي زعيم عربي واحد، يوماً، بأنه ضخّ في رئتيّ حفنة من هوائه الفاسد، لأنني على ثقة بأن من يمتص هواء الحرية في بلاده ليس مؤهلاً لضخ زفرة حياة واحدة في عروق الآخرين، وأنّ من يحرق سيارات الإسعاف بجرحى المعارضة، وباصات الترحيل إلى المعتقلات، لن يكون معنياً بإعياء سيدة مسنّة تحت قيظ الحرارة اللافحة، تنتظر أن يرأف بها جندي منهمك برصد ذبابة مزعجة تطنّ في أذنيه.
أنا الحاجة يسرى النجار، أهدي سلامي من قبري لأنجالي وأحفادي، وأوصيهم أن يغلقوا معبر رفح من الجانب الفلسطيني، هذه المرة، وأن يشددوا الحصار على الأمة العربية برمتها، فيمنعوا عنها الصفح والمغفرة، ويحجبوا عنها كرامة غزة، حتى تفيق على ذلها، وتستيقظ على خضوعها وخنوعها وسحق كرامتها بيد الزعيم والغازي على السواء، وأن تمنع عنهم حبّة الحرية ومصل الإرادة، لعلهم يكفون عن خدرهم، كلما شاهدوا غزة على شاشات التلفاز تحارب باسمهم، وتدافع عن فلول عزتهم.
أنا الحاجة يسرى النجار.. إلى غزة وحدها أهدي موتي، وعلى العرب العار.
أنا الحاجة يسرى النجار التي لفظت أنفاسها الأخيرة بين الحقائب على معبرٍ لم يعد متاحاً ولا حتى لعبور الموتى، شاء سوء طالعي أن أخالف وصية محمود درويش، حين صرخ بالعرب: "وطني ليس حقيبة.. وأنا لست مسافراً"، فكان أن دفعت حياتي بين الحقائب التي أصبحت وطناً لنا، ونحن نتنقل بين الحدود والمطارات، ثم غدت كفناً نموت فيه، وأحيانا تصل الطائرات ولا نصل نحن؛ لأن الحقائب التي تحملنا أخطأت عنوان الوطن.
أنا الحاجة يسرى النجار، لست أحمّل أحداً مسؤولية موتي على المعابر، لأنني أدرك تماماً أن من فرّط في وطني ووطنه معاً، مثل عبد الفتاح السيسي وغيره، لن يضيره أن تلقى عليه مسؤولية موت مسنّة مثلي، تضاف إلى سجل ضحاياه من أبناء شعبه في ميدان رابعة العدوية وسواه، أو بالأحرى، هو ليس أهلاً لتحمّل أي مسؤولية وطنية أو عربية أو حتى أدبية، ولا يشرفني، والحال هذه، أن يتحمل زعيم كهذا مسؤوليتي أنا التي لم تنخفض هامتي أمام دبابات إسرائيل وطائراتها وبوارجها وغاراتها اليومية.
أنا الحاجة يسرى النجار، تسعة وستون عاماً، أهدي سلامي لغزة التي كنت أتمنى أن تحضن آخر أنفاسي، كما احتضنت أولها وأوسطها، كي لا يمنّ علي زعيم عربي واحد، يوماً، بأنه ضخّ في رئتيّ حفنة من هوائه الفاسد، لأنني على ثقة بأن من يمتص هواء الحرية في بلاده ليس مؤهلاً لضخ زفرة حياة واحدة في عروق الآخرين، وأنّ من يحرق سيارات الإسعاف بجرحى المعارضة، وباصات الترحيل إلى المعتقلات، لن يكون معنياً بإعياء سيدة مسنّة تحت قيظ الحرارة اللافحة، تنتظر أن يرأف بها جندي منهمك برصد ذبابة مزعجة تطنّ في أذنيه.
أنا الحاجة يسرى النجار، أهدي سلامي من قبري لأنجالي وأحفادي، وأوصيهم أن يغلقوا معبر رفح من الجانب الفلسطيني، هذه المرة، وأن يشددوا الحصار على الأمة العربية برمتها، فيمنعوا عنها الصفح والمغفرة، ويحجبوا عنها كرامة غزة، حتى تفيق على ذلها، وتستيقظ على خضوعها وخنوعها وسحق كرامتها بيد الزعيم والغازي على السواء، وأن تمنع عنهم حبّة الحرية ومصل الإرادة، لعلهم يكفون عن خدرهم، كلما شاهدوا غزة على شاشات التلفاز تحارب باسمهم، وتدافع عن فلول عزتهم.
أنا الحاجة يسرى النجار.. إلى غزة وحدها أهدي موتي، وعلى العرب العار.