روايات جيدة تصلح كعزاء

يحدث كثيرا أن تشرع في قراءة رواية من الروايات الكثيرة الملقاة بإهمال بجوار سريرك بدافع الملل، ثم سرعان ما تشعر بالضجر وتضعها جانبا مبادلا إياها استياءك، لاعناً التوقيت المناسب الذي لا تحسن اختياره في كل مرة، فالكتب ليست بالصديق الجيد دائما على عكس ما هو شائع، والوحدة كذلك مضرة بالصحة.

لذلك عندما تقاضيت أول راتب من عملي بالكتابة، بعد سنوات الثورة والبطالة كان أول ما فكرت فيه، وسارعت إلى تنفيذه؛ هو شراء حقيبة سفر كبيرة باهظة الثمن دون أن أعرف ما ينبغي علي القيام به حيالها، ولا إلى أين يجب أن أحملها، ولا لماذا لم أكتف بحقيبة صغيرة، واقتنيت تلك التي تقاربني في طولها، ماذا عساي أن أملأه بها؟!

كل ما أعرفه أنني في كل صباح أصحو فيه على المزيد من أخبار الموت والاختفاء القسري، وهو ما يحدث كثيرا هذه الأيام، أضع في حقيبتي الكبيرة أول شيء يتبادر إلى ذهني أنه قد يكون من الضروري أن أحمله معي.

ملاءة سرير، منشفة، روايات مهملة تنتظر وقتا مناسبا، مزيل للعرق، جوارب، ملابس صيفية، قبعة غريبة الشكل، روايات أكتفي بأن أقول عنها أنها حلوة تصلح كوسيلة للتعارف بالعابرين والمارة، ومرافقي السفر الغرباء، فرشاة أسنان، علب سجائر وقداحة، قلم ودفتر فيه متسع للذكريات والرسائل التي لا تصل ولا يرد عليها، أطعمة محفوظة، حذاء قديم، وسنة من سنوات عمري الثلاثين، وبنطلون جينز وحيد، وصورة لفتاة أخطط لمواعدتها منذ عامين لكن التوقيت المناسب لا يأتي أبدا، ربما لو قابلتها لأتيح لي أن أحصل على موسيقى جيدة تصلح للسماع في رحلة طويلة، ولا تسبب إزعاجا للعسكريين عندما يستوقفونني متى عنّ لهم بدون أن يكون لي حق الاعتراض.

بجانب أخبار القتل وأحكام الإعدام اليومية وحقيبتي الكبيرة التي لا أعرف إلى أين أحملها، لكنني أشعر ناحيتها بحنين جارف كما لو كنت أبحث عنها منذ زمن، وعندما وجدتها ترددت في أن أفصح لها عن حقيقة مشاعري المختلطة، بين حب ووحشة، ورواياتي التي اعتادت على إهمالي لها فصار مظهرها أكثر ألفة وهي يعلوها التراب.

هناك حكايات أريد أن أسمعها عن أب مات في يوم ميلاده وحيدا، بعد سنين طويلة في غربته دون أن تستطيع أن تحدد حقيقة مشاعرك تجاه حياته أو موته على وجه الدقة أو أن تسأله لماذا؟

وحكايات ناقصة أريد أن أحكيها عن شقيقي الأكبر وشجاراته مع أبي، وكيف تركت تشجيع فريقي القديم وتحولت لتشجيع الزمالك تأثرا به، وعن أمي التي توقفت عن الغناء لي، حكايات عن أيام الغضب وعن مراهقتي الخجولة، تجربتي الأولى مع التدخين، وبدايات معرفتي بالجنس وعن بؤس أخوة غير أشقاء.. وحكايات أخرى أريد أن أحكيها عن روايات جيدة قرأتها وتصلح كعزاء.

(مصر)