28 يناير 2024
سجّان متقاعد
اللحظة التي صارع السجّان أفكاره، طوال عقودٍ، لطردها من ذهنه، حلّت هذا الصباح، حين استدعاه آمر السجن، ليبلغه بوصول إشعارٍ من وزارة الداخلية، بإحالته على التقاعد.
والحال أن خوفه من التقاعد لا يصدر عن تعلقٍ بالوظيفة، قدر ما كان إحساساً بأنه لا يستطيع التآلف مع عالم حرٍّ خارج القضبان التي حرسها أكثر من ثلاثين عاماً، منذ تم تعيينه في هذه الوظيفة التي تقتضي طبيعتها الوقوف أمام زنازين المعتقلين ومراقبتهم، على مدار اليوم.
كان يراهم خلف القضبان قابعين في زوايا الزنازين، بعد جولاتٍ من التعذيب، أو حين يتناولون وجباتهم الفقيرة على مضض، ويلمح تلك الحدود غير المرئية التي تسوّر أبصارهم، كلما وقع نظرهم على كوّة الزنزانة الصغيرة، فيشعر بانتشاءٍ غريب، ولم يكن يتخيّل أبداً أن يراهم خارج القضبان، بدليل أنه صادف بعضهم في الشوارع، بعد إطلاق سراحهم، فلم يتعرّف عليهم.
ومع طول أمد الوظيفة، صارت القضبان جزءًا من حياته، حتى عند انتهاء فترات دوامه اليومي، إذ لم يعد يتآلف مع الناس، والمحيطين به، إلا إذا تخيّلهم خلف القضبان.
غير أن اللحظة الفارقة حلّت، ولم يكن هناك بدّ من الامتثال لقرار التقاعد، فجمع متعلقاتِه ببطء، وطلب من آمر السجن أن يودّع المعتقلين، فسمح له، غير أن الغاية غير المعلنة من الوداع، كانت رغبته بتحسّس القضبان، للمرة الأخيرة في حياته، فراح يمرّر أصابعه عليها بحزنٍ جارف، وكأنه يغادر وطناً لم يعد يعرف سواه، فيما كانت الدهشةُ تعلو وجوه المعتقلين الذين يحلمون بالخلاص من هذه القضبان.
مع انتهاء دراما الوداع بين السجّان والسجن، وعودته إلى سجن الحياة التي يمقتُها، كان لا بدّ أن يفكّر بإيجاد عملٍ آخر، لأن راتب التقاعد لا يكفي نفقات العائلة الكبيرة، وقد عمل في وظائف متعدّدة، لكنه كان يُطرد سريعاً، لأنه لم يكن يتقن عملاً غير حراسة السجون.
وفي غمرة يأسه من العثور على عملٍ ينصف "خبراته" الوظيفية، وبينما كان يتجوّل في الأسواق، شاهد من بعيد محلاً لبيع طيور الزينة، ورجلاً يحرس الأقفاص، فسرت قشعريرة لذةٍ في جسده، لم يعهدها منذ غادر السجن، وسرعان ما وجد نفسه يتجه، على نحو آليّ، إلى البائع، عارضاً عليه العمل عنده، بأيّ راتبٍ يقرّره.
لحسن حظ "السجان المتقاعد"، كان البائع يفتش عن موظفٍ فعلاً، ولم يستغرق الاتفاق بينهما على تفاصيل العمل والراتب بضع دقائق، بل التمس السجّان من البائع أن يباشر بالعمل فوراً، من دون راتبٍ لهذا اليوم، لأنه كان محتاجاً جرعة حراسةٍ سريعة، قبل أن يرديه نداء الإدمان على القضبان الذي تملّك دمه، على الرغم من أن العبارة التي تلفظ بها البائع استوقفته بعض الشيء، حين ردّد أمامه ما يشبه الضراعة: "بعد أن صرنا اثنين في المحل، آمل أن نبيع أكبر عدد من الطيور".
استعاد "حريته المفقودة"، ما إن جلس أمام الأقفاص، وراح ينظر، من خلال قضبانها إلى الطيور المعتقلة، فعاوده ذلك الانتشاء الذي فقده منذ زمن بعيد، غير أن اللذة سرعان ما تبدّدت حين فوجئ بطلب زبونٍ أن يخرج أحد الطيور من القفص، لمعاينته وشرائه، إذ كان لا يتخيل أبداً أن تغادر الطيور هذا القفص، ولو إلى قفصٍ آخر، فقال للزبون بغضب: "الطيور ليست للبيع".
حين كسدت البضاعة، وعرف البائع السبب، طرد الموظف الجديد، مهدّداً إياه، أن لا يمر من المنطقة مطلقاً، تحت طائلة القتل.
أما السجّان الذي لم يستطع مغادرة الزنزانة التي حرسها طوال حياته، فقد تردّت حالته النفسية واستفحلت، ولم يعد قادراً على مواجهة الناس في الشوارع، إلا بعد أن صار يحمل نافذةً حديديةً لصق وجهه، وينظر إلى العالم من وراء قضبانها.
والحال أن خوفه من التقاعد لا يصدر عن تعلقٍ بالوظيفة، قدر ما كان إحساساً بأنه لا يستطيع التآلف مع عالم حرٍّ خارج القضبان التي حرسها أكثر من ثلاثين عاماً، منذ تم تعيينه في هذه الوظيفة التي تقتضي طبيعتها الوقوف أمام زنازين المعتقلين ومراقبتهم، على مدار اليوم.
كان يراهم خلف القضبان قابعين في زوايا الزنازين، بعد جولاتٍ من التعذيب، أو حين يتناولون وجباتهم الفقيرة على مضض، ويلمح تلك الحدود غير المرئية التي تسوّر أبصارهم، كلما وقع نظرهم على كوّة الزنزانة الصغيرة، فيشعر بانتشاءٍ غريب، ولم يكن يتخيّل أبداً أن يراهم خارج القضبان، بدليل أنه صادف بعضهم في الشوارع، بعد إطلاق سراحهم، فلم يتعرّف عليهم.
ومع طول أمد الوظيفة، صارت القضبان جزءًا من حياته، حتى عند انتهاء فترات دوامه اليومي، إذ لم يعد يتآلف مع الناس، والمحيطين به، إلا إذا تخيّلهم خلف القضبان.
غير أن اللحظة الفارقة حلّت، ولم يكن هناك بدّ من الامتثال لقرار التقاعد، فجمع متعلقاتِه ببطء، وطلب من آمر السجن أن يودّع المعتقلين، فسمح له، غير أن الغاية غير المعلنة من الوداع، كانت رغبته بتحسّس القضبان، للمرة الأخيرة في حياته، فراح يمرّر أصابعه عليها بحزنٍ جارف، وكأنه يغادر وطناً لم يعد يعرف سواه، فيما كانت الدهشةُ تعلو وجوه المعتقلين الذين يحلمون بالخلاص من هذه القضبان.
مع انتهاء دراما الوداع بين السجّان والسجن، وعودته إلى سجن الحياة التي يمقتُها، كان لا بدّ أن يفكّر بإيجاد عملٍ آخر، لأن راتب التقاعد لا يكفي نفقات العائلة الكبيرة، وقد عمل في وظائف متعدّدة، لكنه كان يُطرد سريعاً، لأنه لم يكن يتقن عملاً غير حراسة السجون.
وفي غمرة يأسه من العثور على عملٍ ينصف "خبراته" الوظيفية، وبينما كان يتجوّل في الأسواق، شاهد من بعيد محلاً لبيع طيور الزينة، ورجلاً يحرس الأقفاص، فسرت قشعريرة لذةٍ في جسده، لم يعهدها منذ غادر السجن، وسرعان ما وجد نفسه يتجه، على نحو آليّ، إلى البائع، عارضاً عليه العمل عنده، بأيّ راتبٍ يقرّره.
لحسن حظ "السجان المتقاعد"، كان البائع يفتش عن موظفٍ فعلاً، ولم يستغرق الاتفاق بينهما على تفاصيل العمل والراتب بضع دقائق، بل التمس السجّان من البائع أن يباشر بالعمل فوراً، من دون راتبٍ لهذا اليوم، لأنه كان محتاجاً جرعة حراسةٍ سريعة، قبل أن يرديه نداء الإدمان على القضبان الذي تملّك دمه، على الرغم من أن العبارة التي تلفظ بها البائع استوقفته بعض الشيء، حين ردّد أمامه ما يشبه الضراعة: "بعد أن صرنا اثنين في المحل، آمل أن نبيع أكبر عدد من الطيور".
استعاد "حريته المفقودة"، ما إن جلس أمام الأقفاص، وراح ينظر، من خلال قضبانها إلى الطيور المعتقلة، فعاوده ذلك الانتشاء الذي فقده منذ زمن بعيد، غير أن اللذة سرعان ما تبدّدت حين فوجئ بطلب زبونٍ أن يخرج أحد الطيور من القفص، لمعاينته وشرائه، إذ كان لا يتخيل أبداً أن تغادر الطيور هذا القفص، ولو إلى قفصٍ آخر، فقال للزبون بغضب: "الطيور ليست للبيع".
حين كسدت البضاعة، وعرف البائع السبب، طرد الموظف الجديد، مهدّداً إياه، أن لا يمر من المنطقة مطلقاً، تحت طائلة القتل.
أما السجّان الذي لم يستطع مغادرة الزنزانة التي حرسها طوال حياته، فقد تردّت حالته النفسية واستفحلت، ولم يعد قادراً على مواجهة الناس في الشوارع، إلا بعد أن صار يحمل نافذةً حديديةً لصق وجهه، وينظر إلى العالم من وراء قضبانها.