سد النهضة .. في الوقت متسع
تبدو التحركات المصرية أخيرا في ملف سد النهضة في مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي موفقة ومؤثرة، لكنها متأخرة. متأخرة سنوات استغرقها الغرق في التفاصيل الفنية عبر وزارات الري، لا الخارجية.
نجحت إثيوبيا في اتباع سياسة تفاوض شبيهة بسياسة إسرائيل، حيث تشتبك الوفود حول جدل عبثي في مسائل مثل اختيار المكاتب الفنية، وعدد سنوات الملء، بينما البناء يستمر على الأرض، بالتزامن مع تأجيل للإشكالات السياسية والقانونية الجوهرية التي لم تصبح مركز النقاش إلا في الأشهر الأخيرة فقط.
معلوم اليوم أن جولة التفاوض التي تمت بدعوة سودانية في الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) انتهت بالسودان أقرب إلى الموقف المصري لأول مرة، بعدما صُدم السودان أيضا بفجاجة الورقة الإثيوبية.
أولاً تريد إثيوبيا اتفاقا "استرشاديا"، ترفض أي آليةٍ إلزامية، وترفض وجود لجنة تحكيم مُلزمة في حال النزاع، كما نصّت على حقها في تعديل سياسات ملء السد وتشغيله لاحقاً باعتباره حقاً "سيادياً". إذن، ما جدوى أي اتفاق أصلا؟ النقطة الجوهرية الثانية رفض إثيوبيا الالتزام بعودة حصص المياه إلى أحجامها السابقة، وذلك على الرغم من أن من المفترض أن السد لتوليد الكهرباء فقط.
لن يأمن السودان على حصته، وعلى استقرار عمل سد الروصيرس، بالضبط كما لن تأمن مصر. ومن المؤسف والغريب أننا وصلنا أخيرا إلى هذه النقطة في 2020، وليس حتى في 2017 أو 2018. يصب معارضون مصريون كامل اللوم على اتفاق المبادئ الموقع في 2015، لكن الحقيقة أنه لم ينص قط على ما حدث، بل اشتمل على مدة لاستكمال جوانب الدراسات الفنية، هي 15 شهرا فقط. والاتفاق بحد ذاته ليس بهذا السوء، بل إنه وفر لمصر سنداً حديثاً للمحاججة ضد إثيوبيا، كما حدث في مجلس الأمن، خصوصا أن أثيوبيا تعتبر كل الاتفاقات السابقة "استعمارية". المشكلة ليست بطرق هذا المسار بحد ذاته، بل في عدم إعلان انهياره مبكرا.
ومن منظور أوسع، تأخرت مصر عقوداً عن الانتباه إلى الخطر في جنوبها، أدارت ظهرها لأفريقيا طويلا، واستهان حسني مبارك باتفاقية عنتيبي في 2010. واليوم تدفع إثيوبيا ضمنا نحو اعتبار المياه ملكية خاصة لدول المنبع. "المياه مياهنا"، كما قال وزير الخارجية الإثيوبي في مارس/ آذار الماضي.
من الصعب توقع تغير حاسم في تصلب الموقف الإثيوبي، فالتصعيد الشعبوي لدى كل الأطراف الإثيوبية يكاد يتجاوز خط الرجعة، حتى أن معارضي رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، يتهمونه بالتفريط والخيانة بتوقيعه اتفاق المبادئ! حين أعلنت مصر والسودان، بعد اجتماع الاتحاد الأفريقي، الوصول إلى توافق على تأجيل الملء، تم إطلاق "هاشتاغ" إثيوبي يدعو إلى الثورة ضد آبي أحمد. وهكذا سرعان ما جاء البيان الإثيوبي متلاعبا متمسّكا ببدء الملء في موعده.
وعلى صعيد آخر، لم تتعرّض إثيوبيا لضغوط دولية جادّة، ما يطرح علامات استفهام عدة عن التوجه الاستراتيجي للأطراف ذات الصلة. وحين غادر الوفد الإثيوبي واشنطن بشكل مفاجئ في فبراير/ شباط الماضي، ورفض التوقيع على الاتفاق الذي صاغته وزارة الخزانة الأميركية والبنك الدولي، بل وصدرت تصريحات عدائية ضد أميركا بوصفها ضغطت لصالح مصر، لم تتخذ الإدارة الأميركية أي رد فعل، ولا حتى تغريدة من ترامب!
الحلول العسكرية بالغة التعقيد في إمكانيتها المادية، والأهم في إمكانيتها السياسية لسيناريوهات "ما بعد الضربة". وفي العموم، ليس من المفترض بالقوى الديمقراطية الدفع بمزايدات عسكرية. يجب تجنب هذا الخيار تماما، إلا بعد استنفاد كل السبل، بما فيها التنازلات الجزئية المؤلمة.
ليس بيد قوى المعارضة المصرية أوراق فعل حقيقية بالقضية، لكن يُفترض بها تقديم خطاب مسؤول، ليس غرضه مغازلة النظام، بل الاحتفاظ بالمصداقية الشعبية، فضلا عن أنه من السفاهة الشماتة بما سيضر الجميع بلا استثناء كما حدث. وفي المقابل، لم يبدِ النظام نفسه حتى الآن أي تجاوب جاد مع دعوات المصالحة الوطنية، وأول خطواتها إطلاق سراح السجناء السياسيين السلميين.
الوقت ينفد سريعا. ولكن ما زال فيه متسع للمحاولة. ليست معركة سياسية، بل وجودية.