01 أكتوبر 2022
غزواتٌ بديلة
شهدت مواقع التواصل المصرية، خلال أسبوع واحد، ثلاث معارك على خطوط النار نفسها: الأولى الغزوة السنوية لمنع تهنئة الأقباط بأعيادهم، وشهدت صورة اللاعب محمد صلاح مع أسرته أمام شجرة الكريسماس هجوما هائلا من كتائب "الكوبي - بيست". الثانية غزوة معتادة أيضاً للوم ملابس الفتيات، بعد واقعة تحرّش جماعي بشعة في المنصورة. الثالثة غزوة نوعية لمنع الترحّم على الشابّة نورهان نصار، بعد "اكتشاف" أن لها، قبل سنوات، مقطعا مصوّرا غير منتشر، تتحدّث فيه عن انضمامها لرابطة المسلمين السابقين في بريطانيا.
وشهدت الغزوات استحداث قوات "جهاد الريآكت"، حيث يدخل جحافل المجاهدين لعمل تفاعل الوجه الضاحك على أي منشورٍ يترحم على نورهان بصفحات أسرتها وأصدقائها. كما شهدت تعزيزا لظاهرة "الإسلامي - الباد بوي"، حيث يستخدم المعلقون أحط الألفاظ بمخالفة متعمّدة للصورة التقليدية لأصحاب "ليس المسلم بالسباب ولا اللعان"، بل قد يتم التنظير بوقائع شدّة السلف الصالح على الفُسّاق. مع ملاحظة أنهم دائما ما تبرأوا من الترجمة المادية لهذه المواقف النظرية، بدءا من شابٍّ انضم إلى "داعش" لقتل الأقباط ونهايةً بشابٍّ تحرّش بفتاة.
أحد تفسيرات الغرق في هذه الغزوات منخفضة الكلفة هو التعويض عن الهزيمة الواقعية لأطياف التيار على الصعيد العسكري أو السياسي في دول عربية عديدة. على سبيل المثال، نشط المُنظّر الجهادي الأردني، إياد القنيبي، في غزوة عدم الترحّم على نورهان، وشدّد على علاقتها بـ"الدحيح" الذي كان هدفاً لغزوة كبرى سابقةٍ منه. ولافتٌ هنا رصد تطور مسار القنيبي، فعلى قناته الرسمية على "يوتيوب"، نجد نحو 260 فيديو بين 2011 و2015، فضلاً عن مئات المقالات، غالبيتها الساحقة سياسية عن أحداث سورية ومصر وتونس وأفغانستان وحتى مالي! ولكن بعد إلقاء الأمن الأردني القبض عليه، وسجنه نحو عامين 2015-2017، عاد من دون أن يحكي كلمةً عما حدث في فترة سجنه، بل بدأ فوراً منتصف 2017 سلسلة "رحلة اليقين"، حيث يخوض حربا ضد نظرية التطور.
على الجانب المقابل، لا تخلو الجبهة المقابلة (سواء بمكونها العلماني أو الإسلامي الإصلاحي) من الاعتبار نفسه، فهزيمة الثورات العربية والتيار الديمقراطي سياسيا جعلت معركة الصراع على الانحيازات المجتمعية تحتلّ مساحةً أوسع في خطاب أفراده. ولكن هذه الغزوات تحمل جانباً آخر واقعياً، هو الصراع على السلطة المجتمعية، والخوف من تفلّتها، كما تفلتت السلطة السياسية.
منذ "الصحوة الإسلامية" في السبعينيات، سيطرت أفكار تيارات الإسلاميين على المخيال العام للشعوب العربية، بل وعلى جانبٍ كبير من مخيال حكامها أيضاً. امتلكوا سلطةً معياريةً لتحديد الصواب والخطأ، وكان الجميع، شعبيا ورسميا، يسعى إلى رضاهم.
جانب آخر من مكونات هذه السلطة المعنوية هو العزلة، سواء بالجانب المعنوي، "العزلة الشعورية" عن المجتمع الجاهلي بتعبير سيد قطب، أو مظاهر العزلة المادية بترسيخ اختلافاتٍ ظاهرة بين المسلمين بالمجمل وغير المسلمين، ثم بين الإسلاميين وغير الإسلاميين. شهدنا زمانا كان الصراع فيه حول "جزاك الله خيرا" بدلا من "شكرا"، وكان إسلاميون يتعمدون تسمية أبنائهم بأسماء الصحابة المهجورة، فيختفي عمرو وياسر وأسامة مقابل خباب وعبادة والمقداد.
وليس بعيداً عن هذا المكون أيضاً شعور الخوف من التغيرات السريعة، خاصة لدى الأجيال الأحدث التي لا تهتم أصلاً بهذه النقاشات. يلقي الإسلاميون باللائمة الكبرى على التغيرات السياسية في السعودية ومصر التي غيّرت من متصدّري المنصّات، لكنهم لم يلاحظوا أن الإشكالية الحقيقة كانت بخطاب هؤلاء المتصدّرين أنفسهم.
وقد مثّل الربيع العربي فرصةً لهز كل الثوابت الاجتماعية والسياسية، وكذلك فرض المناخ العالمي وثورة الاتصالات تحوّلا مضطردا، حيث نشأت أجيالٌ تطرح تعرّضا لمؤثّراتٍ عالمية مختلفة، وتطرح أسئلةً مختلفةً لم يعد من المنطقي أجابتها الإجابات نفسها.
لم يعد من الممكن الاكتفاء بالجزر المنعزلة المريحة على أي طرف، والصراع على السلطة المعنوية لا يقل أهميةً عن الصراع على السلطة المادية، ولو إلى حين.
أحد تفسيرات الغرق في هذه الغزوات منخفضة الكلفة هو التعويض عن الهزيمة الواقعية لأطياف التيار على الصعيد العسكري أو السياسي في دول عربية عديدة. على سبيل المثال، نشط المُنظّر الجهادي الأردني، إياد القنيبي، في غزوة عدم الترحّم على نورهان، وشدّد على علاقتها بـ"الدحيح" الذي كان هدفاً لغزوة كبرى سابقةٍ منه. ولافتٌ هنا رصد تطور مسار القنيبي، فعلى قناته الرسمية على "يوتيوب"، نجد نحو 260 فيديو بين 2011 و2015، فضلاً عن مئات المقالات، غالبيتها الساحقة سياسية عن أحداث سورية ومصر وتونس وأفغانستان وحتى مالي! ولكن بعد إلقاء الأمن الأردني القبض عليه، وسجنه نحو عامين 2015-2017، عاد من دون أن يحكي كلمةً عما حدث في فترة سجنه، بل بدأ فوراً منتصف 2017 سلسلة "رحلة اليقين"، حيث يخوض حربا ضد نظرية التطور.
على الجانب المقابل، لا تخلو الجبهة المقابلة (سواء بمكونها العلماني أو الإسلامي الإصلاحي) من الاعتبار نفسه، فهزيمة الثورات العربية والتيار الديمقراطي سياسيا جعلت معركة الصراع على الانحيازات المجتمعية تحتلّ مساحةً أوسع في خطاب أفراده. ولكن هذه الغزوات تحمل جانباً آخر واقعياً، هو الصراع على السلطة المجتمعية، والخوف من تفلّتها، كما تفلتت السلطة السياسية.
منذ "الصحوة الإسلامية" في السبعينيات، سيطرت أفكار تيارات الإسلاميين على المخيال العام للشعوب العربية، بل وعلى جانبٍ كبير من مخيال حكامها أيضاً. امتلكوا سلطةً معياريةً لتحديد الصواب والخطأ، وكان الجميع، شعبيا ورسميا، يسعى إلى رضاهم.
جانب آخر من مكونات هذه السلطة المعنوية هو العزلة، سواء بالجانب المعنوي، "العزلة الشعورية" عن المجتمع الجاهلي بتعبير سيد قطب، أو مظاهر العزلة المادية بترسيخ اختلافاتٍ ظاهرة بين المسلمين بالمجمل وغير المسلمين، ثم بين الإسلاميين وغير الإسلاميين. شهدنا زمانا كان الصراع فيه حول "جزاك الله خيرا" بدلا من "شكرا"، وكان إسلاميون يتعمدون تسمية أبنائهم بأسماء الصحابة المهجورة، فيختفي عمرو وياسر وأسامة مقابل خباب وعبادة والمقداد.
وليس بعيداً عن هذا المكون أيضاً شعور الخوف من التغيرات السريعة، خاصة لدى الأجيال الأحدث التي لا تهتم أصلاً بهذه النقاشات. يلقي الإسلاميون باللائمة الكبرى على التغيرات السياسية في السعودية ومصر التي غيّرت من متصدّري المنصّات، لكنهم لم يلاحظوا أن الإشكالية الحقيقة كانت بخطاب هؤلاء المتصدّرين أنفسهم.
وقد مثّل الربيع العربي فرصةً لهز كل الثوابت الاجتماعية والسياسية، وكذلك فرض المناخ العالمي وثورة الاتصالات تحوّلا مضطردا، حيث نشأت أجيالٌ تطرح تعرّضا لمؤثّراتٍ عالمية مختلفة، وتطرح أسئلةً مختلفةً لم يعد من المنطقي أجابتها الإجابات نفسها.
لم يعد من الممكن الاكتفاء بالجزر المنعزلة المريحة على أي طرف، والصراع على السلطة المعنوية لا يقل أهميةً عن الصراع على السلطة المادية، ولو إلى حين.