03 مايو 2017
غول السلطة
مبروكة علي (تونس)
ثمة صورة راسخة في المخيال الشعبي التونسي، والعربي عموما، يقترن فيها الترويض والتخويف بالوجود المفترض للغول، ثالث المستحيلات، فمن منا لم يسمع في طفولته ذلك التهديد "اسكت لا يجيك الغول" من أحد أبويه، أو أفراد عائلته الذين يكبرونه سناً، حين تبكى أو تشاغب لأجل لعبة ما أو أكلة تشتهيها أو تأخركَ عن النوم، أي شيء ويُلقى بهذا التهديد أمامك لتُوقف احتجاجاتك الطفولية، وهو تهديد في باطنه يطولُ احتياجاتك، حقوقك غالباً، وما الغولُ الذي سمعنا عنه كثيراً ولم نره، لنعرفَ فيما بعد بخرافةِ هذا الوحش والذي لم يتعرفهُ المهددون أيضاً.
هذه التربية المرهبة جعلتنا نسكت، بل سكتنا كثيراً وأكثر من المفترض، حتى انسحبَت حكاية الغول على ما هو أوسع من تهديد عائلي، لتصبح سياسة عامة، تتبعها حكوماتنا على شاكلة "إرهاب سلطوي متنوع" مع اختلاف بسيط أن الغول صار قابلا للوجود وبصور متعددة. أصبح الإحتجاج مكفولا دستوريا. لذا أنت حرّ بأن تطالب بما تشاء بالتشغيل أو التنمية أو الصحة أو ما شئت. لكن، عليك أن تتذكر الغول، وأن تكون لك القدرة على مواجهته، باعتباره ظاهرة وليس مسكوت عنهُ، ليحلَّ في التربية الجديدة، بدلاً من الوحش السلطة ممثلة في حالة الطفولة الجديدة بالشرطي، في حين تطمئنُ الأم في البلدان المتقدمة بوجود الشرطي، تقول الأم: اسكت ستأتيكَ الشرطة. وتقلدُ صوتَ سيارتهم.
ولعل الكلّ يتذكر خطاب الساسة التونسيين ضمن الاحتجاجات التي شهدتها مدينة القصرين، وتبعتها محافظات أخرى، طالبت بالتشغيل على اعتباره مطلب الثورة الأول والأكيد. بدأ الكل خطابه بالتأكيد على حق الاحتجاج وقانونيته، لكنه لم ينس أن يُذكّر التونسيين بالغول المتربص بهم هنا وهناك، تبعه فيما بعد حملات "تخويف وتخوين" على مواقع التواصل الاجتماعي، معتبرة أن الاحتجاج هو فرصة للإرهاب، للتسلل، والتوغل داخل البلاد، وكأن الحكومة تحمّل فشلها الأمني والاجتماعي والاقتصادي للشعب، وكأننا أمام واقع عكسي ليصبح الشعب في خدمة الحكومة، لا الحكومة في خدمة الشعب، واقع يجعلنا نتساءل عما قدمت الثورة للتونسية، وهل حققت ولو هدفاً واحداً من الأهداف المحقةِ، وكانت أملا للشعبِ؟
تطورت الحكاية فيما يتطور كل شيء من حولنا، و صار الغول قابلاً لأن يكون بوجه بشري، يلبس حزاما ناسفاً، ويحمل سيفا أو رشاشا أو غيرها من أدوات القتل، وصرنا، نحن المهمشون، الطُعمَ الرخيص الذي تطحنه هذه الحرب، التي ليس لنا فيها ناقة ولا جمل، كأنَّ لسان حالنا يقول: الغول باقٍ لا محال، وبأشكال مختلفة وأكثرَ تقدما مما سَلَف، ولعل حالة الرضوخ والانهزامية التي تعيشها الشعوب العربية نتيجةٌ حتميةٌ لقصص الغول وقصص أخرى، أسست لذهنية الاستبداد وثقافته.
أستطيع، هنا، أن أستدل على قدرة التخييل البشري على استحضار الصورة وتشكيلها لتصير حقيقة بما قام به الدكتور بورهيف، حيث وظّفَ مجرمون في تجاربه وأبحاثه العلمية المثيرة في مقابل تعويضات مالية لأهلهم، وأن تُكتَب أسماؤهم في تاريخ البحث العلمي، ومجموعة من المغريات الأخرى، وبالتنسيق مع المحكمة العليا، وبحضور مجموعة من العلماء المهتمين بتجاربه، إذ أجلس بورهيف أحد المجرمين المحكوم عليهم بالإعدام، واتفق معه على أن يتمَ إعدامه بتصفية دمه، بحجة دراسة التغيرات التي يمر بها الجسم في أثناء تلك الحال، وبدأ تجربته متظاهرًا بقطع شرايين ( فأر التجربة) ليصفِّي دمه وينفذ حكم الإعدام كما هو الاتفاق. بعد عدة دقائق لاحظ الباحثون وأعضاء من المحكمة العليا شحوبًا واصفرارًا يعتري جسم المحكوم عليه بالطريقة المبتكرة، وعند محاولتهم تَفحصه بالكشف عن وجههِ، كانت المفاجأة أنَّ الرجلَ مات، ويُعزىَ السبب إلى عملية تثوير الخيال صوتًا وصورة دون أن يفقدَ المحكوم قطرة دم واحدة، والأدهى أنَّه مات في الوقت نفسه الذي يستغرقه الدم ليتساقط من الجسم مسبباً الموت، مما يعني أنَّ العقل يعطي أوامر لكل أعضاء الجسم بالتوقف عن العمل استجابةً للخيال المتقن كما يستجيب للحقيقة تماما.
نحن أيضا نموت بسبب خيالنا الذي تحوّل وحوّل الحقيقة، وصرنا فئران تجارب لوحوشٍ تريد لوجودها أن يصير أسطورة أو يخلّدَ مستعينين بعقل اعتاد الهزيمة، لا قدرة لديه على دحضِ الأكذوبةِ والخرافة.
هذه التربية المرهبة جعلتنا نسكت، بل سكتنا كثيراً وأكثر من المفترض، حتى انسحبَت حكاية الغول على ما هو أوسع من تهديد عائلي، لتصبح سياسة عامة، تتبعها حكوماتنا على شاكلة "إرهاب سلطوي متنوع" مع اختلاف بسيط أن الغول صار قابلا للوجود وبصور متعددة. أصبح الإحتجاج مكفولا دستوريا. لذا أنت حرّ بأن تطالب بما تشاء بالتشغيل أو التنمية أو الصحة أو ما شئت. لكن، عليك أن تتذكر الغول، وأن تكون لك القدرة على مواجهته، باعتباره ظاهرة وليس مسكوت عنهُ، ليحلَّ في التربية الجديدة، بدلاً من الوحش السلطة ممثلة في حالة الطفولة الجديدة بالشرطي، في حين تطمئنُ الأم في البلدان المتقدمة بوجود الشرطي، تقول الأم: اسكت ستأتيكَ الشرطة. وتقلدُ صوتَ سيارتهم.
ولعل الكلّ يتذكر خطاب الساسة التونسيين ضمن الاحتجاجات التي شهدتها مدينة القصرين، وتبعتها محافظات أخرى، طالبت بالتشغيل على اعتباره مطلب الثورة الأول والأكيد. بدأ الكل خطابه بالتأكيد على حق الاحتجاج وقانونيته، لكنه لم ينس أن يُذكّر التونسيين بالغول المتربص بهم هنا وهناك، تبعه فيما بعد حملات "تخويف وتخوين" على مواقع التواصل الاجتماعي، معتبرة أن الاحتجاج هو فرصة للإرهاب، للتسلل، والتوغل داخل البلاد، وكأن الحكومة تحمّل فشلها الأمني والاجتماعي والاقتصادي للشعب، وكأننا أمام واقع عكسي ليصبح الشعب في خدمة الحكومة، لا الحكومة في خدمة الشعب، واقع يجعلنا نتساءل عما قدمت الثورة للتونسية، وهل حققت ولو هدفاً واحداً من الأهداف المحقةِ، وكانت أملا للشعبِ؟
تطورت الحكاية فيما يتطور كل شيء من حولنا، و صار الغول قابلاً لأن يكون بوجه بشري، يلبس حزاما ناسفاً، ويحمل سيفا أو رشاشا أو غيرها من أدوات القتل، وصرنا، نحن المهمشون، الطُعمَ الرخيص الذي تطحنه هذه الحرب، التي ليس لنا فيها ناقة ولا جمل، كأنَّ لسان حالنا يقول: الغول باقٍ لا محال، وبأشكال مختلفة وأكثرَ تقدما مما سَلَف، ولعل حالة الرضوخ والانهزامية التي تعيشها الشعوب العربية نتيجةٌ حتميةٌ لقصص الغول وقصص أخرى، أسست لذهنية الاستبداد وثقافته.
أستطيع، هنا، أن أستدل على قدرة التخييل البشري على استحضار الصورة وتشكيلها لتصير حقيقة بما قام به الدكتور بورهيف، حيث وظّفَ مجرمون في تجاربه وأبحاثه العلمية المثيرة في مقابل تعويضات مالية لأهلهم، وأن تُكتَب أسماؤهم في تاريخ البحث العلمي، ومجموعة من المغريات الأخرى، وبالتنسيق مع المحكمة العليا، وبحضور مجموعة من العلماء المهتمين بتجاربه، إذ أجلس بورهيف أحد المجرمين المحكوم عليهم بالإعدام، واتفق معه على أن يتمَ إعدامه بتصفية دمه، بحجة دراسة التغيرات التي يمر بها الجسم في أثناء تلك الحال، وبدأ تجربته متظاهرًا بقطع شرايين ( فأر التجربة) ليصفِّي دمه وينفذ حكم الإعدام كما هو الاتفاق. بعد عدة دقائق لاحظ الباحثون وأعضاء من المحكمة العليا شحوبًا واصفرارًا يعتري جسم المحكوم عليه بالطريقة المبتكرة، وعند محاولتهم تَفحصه بالكشف عن وجههِ، كانت المفاجأة أنَّ الرجلَ مات، ويُعزىَ السبب إلى عملية تثوير الخيال صوتًا وصورة دون أن يفقدَ المحكوم قطرة دم واحدة، والأدهى أنَّه مات في الوقت نفسه الذي يستغرقه الدم ليتساقط من الجسم مسبباً الموت، مما يعني أنَّ العقل يعطي أوامر لكل أعضاء الجسم بالتوقف عن العمل استجابةً للخيال المتقن كما يستجيب للحقيقة تماما.
نحن أيضا نموت بسبب خيالنا الذي تحوّل وحوّل الحقيقة، وصرنا فئران تجارب لوحوشٍ تريد لوجودها أن يصير أسطورة أو يخلّدَ مستعينين بعقل اعتاد الهزيمة، لا قدرة لديه على دحضِ الأكذوبةِ والخرافة.