عادت نجاة أحمد (22 عاما) إلى بيت الأسرة بعد انتهاء يومها الجامعي في كلية الطب، لم تكن تعرف أن قصتها مع الطب انتهت إلى الأبد، فقد صارت بطلة لقصة من نوع آخر تحكيها.
تقول الفتاة: "عدت من دوامي في كلية الطب، ففوجئتُ بأسرتي في وضع متوتر للغاية، سألت والدتي: ماذا حدث؟ فأجابتني أن ابن عمي قتل رجلا وابنة أخيه، وهو حاليا في السجن بسبب شجار على تمرير المياه للمزروعات، وقد ذهب والدك وإخوتك للتفاوض مع عشيرة المقتول".
تكمل: "لم أُعِر الأمر اهتماما، في ذلك الوقت، وبعد أكثر من شهر وبعد أن انتهت المفاوضات بين العشيرتين أدركتُ أن الخطر محدق بي لا محالة، عندما وجدتُ أعمامي يطرقون باب منزلنا وهم محبطون، فاضطررتُ إلى الاختباء وراء أحد الأبواب لأسمع ما يقولون، وسمعتُ عمي الكبير يقول لوالدي: لقد دفعنا مبلغ الدية وانتهى الموضوع، ولكنهم يريدون امرأة "فصلية" عوضا عن المقتولة أيضا، وقد وقع الاختيار على ابنتك نجاة، وإلا فنحن مضطرون إلى دفع دية بالملايين، وهو شيء فوق طاقاتنا، ويجب أن نرد عليهم خلال ثلاثة أيام".
صدمت الفتاة من طلب أعمامها، خاصة وأن والدها الذي حاول ثـَنْـيَهـُمْ عن مطلبهم لم يفلح، رغم أنه قال إنه مستعد لدفع نصف مبلغ الدية، لكنهم رفضوا وقالوا "نعطيهم الفتاة وستعود بعد أسابيع. وتكون لها حياة مستقلة وستحبها".
وقالت إن أعمامها هددوا والدها بإخراجه من العشيرة في حال لم يوافق، "وبالفعل أخذوني بثوب واحد بلا حقيبة ملابس ولا حتى مسحوق تجميل على وجهي، وفقا للتقاليد، وتركت الكلية رغم أنني كنت على وشك التخرج لأصبح طبيبة بعد ثلاثة أشهر، واليوم أنا حامل من شخص لم أحبه ولم أعرفه يوما، فضلا عن معاملة أهله السيئة لي".
وتضيف نجاة: "أسكن في غرفة في علـّية المنزل لا يجبر خاطري سوى ذكريات الجامعة مع زميلاتي، والتوسل إلى الله أن يقبض روحي، وأخشى في لحظة أن أنهار وأقدم على عمل غبي" على حد تعبيرها.
أزمة متكررة
هذه القصة ليست رواية خيالية ولا فيلما دراميا من تأليف كاتب يبالغ في الوصف، بل هي قصة واقعية تتكرر كل يوم فيما يعرف بـ"زواج التعويض"، وهو نوع من الزواج يتم بأمر العشيرة وتقاليدها وتدفع المرأة فاتورته غاليا مثلما تدفع في "زواج البدلة".
انتشار هذين النوعين دفع منظمات اجتماعية وحقوقية عراقية إلى إطلاق نداءات استغاثة واسعة للحكومة والبرلمان والسلطة القضائية، لوضع حد أمام انتشار ظاهرة زواج ما يعرف شعبيا بـ"زواج البدلة" و"زواج التعويض"، والذي انتشر بشكل واسع في الريف والمناطق القروية، وذلك بعد تسجيل عدد من حالات الانتحار والانهيار النفسي للفتيات المتزوجات حديثا وفقا لهذا النظام.
وقالت إيمان فاضل، مديرة منظمة "قوارير" المتخصصة في رعاية النساء المعنفات، إن الظاهرة باتت مخيفة وغير قابلة للسكوت عنها، "إنه نوع من أنواع الاتجار بالبشر" على حد وصفها.
وعن الظاهرة تقول إيمان: إن زواج "البدلة" الذي ينتشر في المناطق الريفية والقروية، وبشكل خاص بين العوائل الفقيرة، يقوم على أن تتبادل العوائل بالزواج بين ذكورها وإناثها، بحيث يتزوج الشاب من فتاة مقابل أن يزوج شقيقته لشقيق الفتاة التي يرغب في الاقتران بها، مقابل عدم دفع أجور الزواج أو إقامة مراسم عقد القران، وعادة ما تسكن في بيت العائلة الكبيرة، وإذا حدث انفصال في الزيجة الأولى تنفك الزيجة الثانية بشكل تلقائي، ومن دون أية مقدمات، حتى لو كان الزوجان الآخران متفاهمين.
زواج التعويض
أما الظاهرة الثانية وهي زواج التعويض، وهو الأخطر على الفتاة، فإنها تقترن عادة بجرائم القتل والثأر والدية العشائرية، فالقاتل أو المتورط في جريمة معينة أو من يكون في ذمته دين لا يمكنه سداده، يقوم الطرف الدائن أو صاحب الدية بأخذ إحدى شقيقاته كتعويض عن الدم أو المال، ومن دون أي مقدم أو مؤخر، وهو ما يعرف بـ"الكوامة" في اللهجة العراقية الدارجة.
وأوضحت أن الجمعية سجلت عددا من حالات الانتحار والانهيار النفسي الموجب لدخول المستشفى الناتجة عن هذه الممارسات في عدد من مناطق جنوب ووسط العراق، وصلت إلى نحو 21 حالة خلال الأشهر الثلاثة الماضية، حيث يلعب ضعف القانون المدني وانهيار منظومة الرقابة الحكومية والقضائية دوره في تفاقم الموضوع خاصة مع انشغال قوات الأمن في مطاردة الجماعات المسلحة.
وترى صفية السهيل، رئيسة لجنة المرأة في البرلمان العراقي، أن التقاليد العشائرية والبدوية البالية عادت تتنفس من جديد على أجساد الفتيات، بسبب ضعف الرقابة القضائية والأمنية، وغياب حملات التوعية وانشغال السياسيين بالأزمات المتتالية وقوات الأمن بالإرهاب، فضلا عن ضعف التنسيق والتخبط الموجود لدى كثير من المنظمات المحلية التي من المفترض بها مراقبة ذلك، مشيرة إلى أن الظاهرة تستدعي تشريعا من البرلمان بشكل عاجل قبل انتهاء الدورة البرلمانية الحالية منتصف العام المقبل.
الشرطة لا تملك التدخل
من جانبه قال المتحدث باسم وزارة الداخلية العراقية، العميد سعد معن: إن حالات الإجبار على الزواج يتم التعامل معها في حال تلقت الشرطة بلاغا من الفتاة أو أحد ذويها فقط، بسبب لجوء كثير من العوائل إلى تزويج بناتهن خارج المحكمة ومن دون عقد زواج رسمي وهو ما يعرف بالزواج العربي، لذا يكون من الصعوبة تتبع تلك الحالات خاصة مع وجود حالة عدم تعاون مع الشرطة في هذا الملف.
ويضيف معن أن الشرطة ستتعامل مع أية شكوى مقدمة حول إكراه الفتيات على الزواج بشكل جدي، خاصة إذا ما اقترنت عملية الإجبار بتهديد، مبينا أن الظاهرة موجودة من قبل تغيير النظام في العراق في مارس/آذار 2003 لكنها زادت بشكل أكبر بعده.
ويطالب علي غزال، مدير منظمة حقوقية تعنى بالنساء المعنفات والأرامل في بغداد، بتشكيل تحالف من منظمات المجتمع المدني، وبمشاركة رجال دين وحقوقيين، لتنفيذ زيارات ميدانية للقرى وعقد ندوات مكثفة للتحذير من خطورة هذه الظاهرة ومدى حرمتها في الإسلام وجميع الديانات الأخرى المتوطنة في العراق وآثارها السلبية على الفتاة وتجريمها قانونا، مضيفا أن ذلك سينجح في معالجة جزء من المشكلة، لكن تبقى المسؤولية الكبرى على الحكومة العراقية التي لا يبدو أنها مهتمة بالموضوع حتى الآن.
ورغم إصدار رجال دين من السنة والشيعة فتوى تحذر من حرمة زج الفتيات في مثل هذا النوع من الزيجات، فإن ذلك لم يكن له أي وقع على الشارع العراقي.
ويقول الشيخ محمد عبد الله خطاب، عضو لجنة الإفتاء العراقية، في بغداد: "مثل تلك الزيجات تعتبر سفاحا ومحرمة في ديننا ومن مختلف الطوائف، لكن الكثير من الناس يسمعون منا ما يحلو لهم ويتوافق مع آرائهم، المشكلة في السلطة التنفيذية فصوت رجل الدين لا مكان له في حال لم تكن هناك سلطة وقانون يبسط نفوذه على الجميع".