01 أكتوبر 2022
في مديح التمثيليات السياسية
خلال عام 2011 أذكر كيف تابعت المظاهرات المطالبة بالإصلاح في المغرب والأردن وعُمان. وقتها مع ذروة حماس نجاح المصريين في إطاحة حسني مبارك، لم أكن أفهم معنى أن يتوجه أي جهدٍ إلى غير إسقاط رأس النظام، وكنت أعد كل ما سوى ذلك تمثيليةً لا أكثر. ما قيمة تغيير رئيس حكومة أو قانون، إذا كان النظام ثابتاً؟ وإذا كانت الشعوب لا ترى ذلك أو تخشى ذلك، فلماذا نرى كل هؤلاء المثقفين والسياسيين يتبنون النهج الإصلاحي نفسه؟
لاحقاً، التقيت أردنيين ومغاربة شرحوا لي لماذا يرون الأنظمة الملكية التقليدية أفضل لبقاء دولهم، وأنسب لثقافة شعوبهم وطبيعتهم. وفي النهاية، لا تُفرض الديمقراطية دينا إجباريا، ما لم يكن هناك طلب حقيقي عليها لأغلب الشعب، أو النخب الفاعلة فيه، فإن فرضها نفسه سيصبح سلوكاً غير ديمقراطي.
كان هذا سابقاً، أما اليوم بعدما شاهدنا ما حدث في سورية ومصر وغيرهما، فلعل المرء يتأمل في مميزات البلاد ذات تقاليد التمثيليات السياسية المستقرّة!
خلال الفترة الماضية، شهد الأردن إضراباً عاماً ومظاهرات نظمتها النقابات والاتحادات، احتجاجاً على غلاء المعيشة. وشهد المغرب أيضا حملة مقاطعة ناجحة لسلع ثلاث من الشركات الكبرى ذات الارتباطات التاريخية. كان لافتا مدى الحيوية في البلدين، حيث إن تركيز الغضب والجهود على أهداف جزئية، كالحكومة في الأردن، أو رجال أعمال وسياسيين متنفذين في المغرب، هو ما يسمح بوجود هامشٍ من الضغوط الشعبية والتفاوض وردود الأفعال وتحسين الظروف.
تبدو المقارنة لصالح هذه النماذج، إذا قورنت بمصر اليوم، فالمغرب التي لم يتجاوز التضخم فيه 2.1%، ولديه تجربة ناجحة للغاية في خفض الفقر عبر دعم الاستثمارات الصناعية (انخفض الفقر في المغرب خلال عشر سنوات من 2004 إلى 2014 من 25% إلى 8.2%)، تتمتع بهامشٍ يسمح بإجراء انتخاباتٍ نزيهةٍ في الصناديق، حتى لو كانت تنافس فيها أحزاب مقربة من الديوان الملكي. وبالتالي، سمح هذا بتشكيل لجنة برلمانية للتحقيق في ارتفاع أسعار المحروقات، وهي التي نشرت تقريرها عن تلاعب الشركات برفع السعر فوق الأسعار العالمية بعد قرار التحرير، وأكبر الشركات يملكها وزير الفلاحة والصيد في الحكومة نفسها، عزيز أخنوش، وبعد التقرير اندلعت حملة المقاطعة.
الفارق شاسع بالنسبة لمصر التي تجاوز التضخم بها في 2017 بعد التعويم مباشرة 30%، وارتفعت أسعار الغذاء 41% حسب أرقام حكومية، وتقترب نسبة الفقراء من ثلث الشعب، ومع ذلك، طبقت قرارات خفض الدعم وزيادات الأسعار بالقوة الجبرية، من دون وجود أي منفذ لاحتجاج أو تفاوض أو تخفيف، وبوجود برلمان بلا معارضين.
الإشكالية أن الأنظمة حين تكفّ عن التمثيل قد لا يكون هذا هو الأصلح، إذا كانت تملك القوة الباطشة لفرض منطقها، فمثلاً تحدّث بشار الأسد بصراحةٍ عن الشعب السوري الأكثر تجانساً الذي يتكون الآن، والرئيس عبد الفتاح السيسي قال بصراحةٍ في أحد اللقاءات، لائماً منتقدي الحكومة "إنتو هتعرفوا أكتر مني الحكومة دي كويسة ولا لأ؟ أنا بقعد معاهم كل يوم"، ووجه انتقاداً لمانشيت صحافي منخفض السقف، انتقد رفع الحكومة لأسعار الكهرباء. هذا يهوي تماماً بسقف أي حرية إعلامٍ أو حِراك.
المقارنة واضحة لصالح التمثيليات المتقنة في عهد مبارك، والتي سمحت برسم رئيس الحكومة في كاريكاتير في الصحف الحكومية، وبعناوين صحف تنتقد مبارك شخصيا ونجله في الصحف الخاصة، انتخابات نقابات وبرلمان لا تخلو من معارضين ومشاغبين، مظاهرات في الشوارع تهتف ضد مبارك بالاسم، من دون أن يمسّها ضرر، حذر شديد من اتخاذ القرارات غير الشعبية.
ولعل من يتقن التمثيل ينسى، بعد برهة، أنه يمثل، لعل الحدود بين الخيال السياسي والحقيقة السياسية تزول أحياناً.
لاحقاً، التقيت أردنيين ومغاربة شرحوا لي لماذا يرون الأنظمة الملكية التقليدية أفضل لبقاء دولهم، وأنسب لثقافة شعوبهم وطبيعتهم. وفي النهاية، لا تُفرض الديمقراطية دينا إجباريا، ما لم يكن هناك طلب حقيقي عليها لأغلب الشعب، أو النخب الفاعلة فيه، فإن فرضها نفسه سيصبح سلوكاً غير ديمقراطي.
كان هذا سابقاً، أما اليوم بعدما شاهدنا ما حدث في سورية ومصر وغيرهما، فلعل المرء يتأمل في مميزات البلاد ذات تقاليد التمثيليات السياسية المستقرّة!
خلال الفترة الماضية، شهد الأردن إضراباً عاماً ومظاهرات نظمتها النقابات والاتحادات، احتجاجاً على غلاء المعيشة. وشهد المغرب أيضا حملة مقاطعة ناجحة لسلع ثلاث من الشركات الكبرى ذات الارتباطات التاريخية. كان لافتا مدى الحيوية في البلدين، حيث إن تركيز الغضب والجهود على أهداف جزئية، كالحكومة في الأردن، أو رجال أعمال وسياسيين متنفذين في المغرب، هو ما يسمح بوجود هامشٍ من الضغوط الشعبية والتفاوض وردود الأفعال وتحسين الظروف.
تبدو المقارنة لصالح هذه النماذج، إذا قورنت بمصر اليوم، فالمغرب التي لم يتجاوز التضخم فيه 2.1%، ولديه تجربة ناجحة للغاية في خفض الفقر عبر دعم الاستثمارات الصناعية (انخفض الفقر في المغرب خلال عشر سنوات من 2004 إلى 2014 من 25% إلى 8.2%)، تتمتع بهامشٍ يسمح بإجراء انتخاباتٍ نزيهةٍ في الصناديق، حتى لو كانت تنافس فيها أحزاب مقربة من الديوان الملكي. وبالتالي، سمح هذا بتشكيل لجنة برلمانية للتحقيق في ارتفاع أسعار المحروقات، وهي التي نشرت تقريرها عن تلاعب الشركات برفع السعر فوق الأسعار العالمية بعد قرار التحرير، وأكبر الشركات يملكها وزير الفلاحة والصيد في الحكومة نفسها، عزيز أخنوش، وبعد التقرير اندلعت حملة المقاطعة.
الفارق شاسع بالنسبة لمصر التي تجاوز التضخم بها في 2017 بعد التعويم مباشرة 30%، وارتفعت أسعار الغذاء 41% حسب أرقام حكومية، وتقترب نسبة الفقراء من ثلث الشعب، ومع ذلك، طبقت قرارات خفض الدعم وزيادات الأسعار بالقوة الجبرية، من دون وجود أي منفذ لاحتجاج أو تفاوض أو تخفيف، وبوجود برلمان بلا معارضين.
الإشكالية أن الأنظمة حين تكفّ عن التمثيل قد لا يكون هذا هو الأصلح، إذا كانت تملك القوة الباطشة لفرض منطقها، فمثلاً تحدّث بشار الأسد بصراحةٍ عن الشعب السوري الأكثر تجانساً الذي يتكون الآن، والرئيس عبد الفتاح السيسي قال بصراحةٍ في أحد اللقاءات، لائماً منتقدي الحكومة "إنتو هتعرفوا أكتر مني الحكومة دي كويسة ولا لأ؟ أنا بقعد معاهم كل يوم"، ووجه انتقاداً لمانشيت صحافي منخفض السقف، انتقد رفع الحكومة لأسعار الكهرباء. هذا يهوي تماماً بسقف أي حرية إعلامٍ أو حِراك.
المقارنة واضحة لصالح التمثيليات المتقنة في عهد مبارك، والتي سمحت برسم رئيس الحكومة في كاريكاتير في الصحف الحكومية، وبعناوين صحف تنتقد مبارك شخصيا ونجله في الصحف الخاصة، انتخابات نقابات وبرلمان لا تخلو من معارضين ومشاغبين، مظاهرات في الشوارع تهتف ضد مبارك بالاسم، من دون أن يمسّها ضرر، حذر شديد من اتخاذ القرارات غير الشعبية.
ولعل من يتقن التمثيل ينسى، بعد برهة، أنه يمثل، لعل الحدود بين الخيال السياسي والحقيقة السياسية تزول أحياناً.