ذات مرة، سمعت شقيقي الأكبر يخبر أمي بأنه أثناء ما كنا نستعد لنقل "عزالنا" من بيت لآخر، رأى ابنة الجيران وهي تبكي، ويقسم بأنها كانت تبكي لرحيلي. وقتها لم أفهم ولم أهتم، لكن فيما بعد عرفت طعم البكاء، صرت أتلفّت حولي في كل مرة أترك فيها بيتاً قديماً، لعل عيني تتعلق بنظرة تخبرني بأن عليّ أن أبقى من دون جدوى.. واعتدت الرحيل.
اليوم سنترك منزلنا القديم لآخر جديد، واحد وثلاثون عاما عشتها متنقلا بين تسعة عشر منزلا صادقت جدرانها من دون أن أجرؤ على الكتابة إليها، خوفاً من عقاب أبي، وثلاثة بلدان لم تشعرني سوى بأنني غريب، وست مدن لم تبادلني شوارعها الحب، ربما لأنها تعلم أنني سرعان ما سأهجرها، وخمس مدارس غير جيدة لصنع الذكريات!.
عرفت الوحدة، حتى اعتدت على شرب أشد أنواع المشروبات مرارة، وجرّبت الفراق مرات كثيرة بمفردي أحيانا، وبرفقة أسرتي طيلة الوقت، لكن لم يصبني الحنين إلى العودة أبدا، لم أحمل معي سوى حقائب أصعد بها درجات وأهبط بها أخرى، وسنوات متراكمة لن تكون شاهدة على شيء، وكتب صالحة للبيع.
ما يسبب الإزعاج حقا هو اضطرارك إلى تغيير بعض عاداتك الأثيرة، وتبدأ من جديد في الإجابة على أسئلة الفضوليين والتعرف على محصّلي فواتير الكهرباء والماء والغاز وعامل النظافة الجديد، وجوه ستأخذ وقتا حتى تعتاد رؤيتهم بانتظام، فهم في الغالب الوحيدون الذين سيطرقون بابك ليتأكدوا من أنك ما زلت حياً.
هناك أيضا المقهى الجديد سيزعجك أن يأتي إليك العامل وأنت لم تجلس على كرسيك بعد ليسألك عن مشروبك، وستنزعج أنت من تكرار أنك تشرب الشاي من غير سكر، حتى يعتادوك هم أيضا، ويكفون عن النظر إليك بريبة. هناك بائع السجائر وهو أهم شخص ستتعامل معه. وهناك الحلاق، وتاجر المخدرات، والمخبرون الذين على صلة وثيقة باللصوص.
ستقيس موضع خطواتك، ستغير مكان نومك، ووضع القراءة، ستأخذ وقتاً حتى تحفظ أماكن مفاتيح الكهرباء، وتعتاد أذنك على مكبر صوت المسجد القريب، فلا يصير مزعجا حد إيقاظك من النوم.
لا أعرف كيف أنهي الحكاية.. أتذكر بيوتا ضيقة وأخرى واسعة، وأتذكر ملامح غير واضحة لوجه جدي.
لاحقاً دخلت بيوتا وددت لو أن ساكنيها يسمحون لي بالبقاء، لكني كنت أغادر دوما مسرعا بدون هدف، لا أعرف من أين جاءتني الفكرة عندما كنت أغادر ذلك الفندق بعد ليلتين قضيتهما، تركت ورقة كتبت فيها أنني كنت هنا، ووضعتها في أحد الأدراج وانصرفت.
(مصر)
اليوم سنترك منزلنا القديم لآخر جديد، واحد وثلاثون عاما عشتها متنقلا بين تسعة عشر منزلا صادقت جدرانها من دون أن أجرؤ على الكتابة إليها، خوفاً من عقاب أبي، وثلاثة بلدان لم تشعرني سوى بأنني غريب، وست مدن لم تبادلني شوارعها الحب، ربما لأنها تعلم أنني سرعان ما سأهجرها، وخمس مدارس غير جيدة لصنع الذكريات!.
عرفت الوحدة، حتى اعتدت على شرب أشد أنواع المشروبات مرارة، وجرّبت الفراق مرات كثيرة بمفردي أحيانا، وبرفقة أسرتي طيلة الوقت، لكن لم يصبني الحنين إلى العودة أبدا، لم أحمل معي سوى حقائب أصعد بها درجات وأهبط بها أخرى، وسنوات متراكمة لن تكون شاهدة على شيء، وكتب صالحة للبيع.
ما يسبب الإزعاج حقا هو اضطرارك إلى تغيير بعض عاداتك الأثيرة، وتبدأ من جديد في الإجابة على أسئلة الفضوليين والتعرف على محصّلي فواتير الكهرباء والماء والغاز وعامل النظافة الجديد، وجوه ستأخذ وقتا حتى تعتاد رؤيتهم بانتظام، فهم في الغالب الوحيدون الذين سيطرقون بابك ليتأكدوا من أنك ما زلت حياً.
هناك أيضا المقهى الجديد سيزعجك أن يأتي إليك العامل وأنت لم تجلس على كرسيك بعد ليسألك عن مشروبك، وستنزعج أنت من تكرار أنك تشرب الشاي من غير سكر، حتى يعتادوك هم أيضا، ويكفون عن النظر إليك بريبة. هناك بائع السجائر وهو أهم شخص ستتعامل معه. وهناك الحلاق، وتاجر المخدرات، والمخبرون الذين على صلة وثيقة باللصوص.
ستقيس موضع خطواتك، ستغير مكان نومك، ووضع القراءة، ستأخذ وقتاً حتى تحفظ أماكن مفاتيح الكهرباء، وتعتاد أذنك على مكبر صوت المسجد القريب، فلا يصير مزعجا حد إيقاظك من النوم.
لا أعرف كيف أنهي الحكاية.. أتذكر بيوتا ضيقة وأخرى واسعة، وأتذكر ملامح غير واضحة لوجه جدي.
لاحقاً دخلت بيوتا وددت لو أن ساكنيها يسمحون لي بالبقاء، لكني كنت أغادر دوما مسرعا بدون هدف، لا أعرف من أين جاءتني الفكرة عندما كنت أغادر ذلك الفندق بعد ليلتين قضيتهما، تركت ورقة كتبت فيها أنني كنت هنا، ووضعتها في أحد الأدراج وانصرفت.
(مصر)