في زخم الأحداث على الساحة الفلسطينية، تنشأ حالات من إنكار الواقع ونسج البكائيات في غير موضعها، يبدأ الأمر باستشهاد البطل مهند حلبي خلال عملية فردية نفذها ضد بضعة مستوطنين نجح فيها بالقضاء على اثنين منهم، وانتهت العملية باستشهاد مهند جرّاء تعرضه لإطلاق نار عنيف من جانب شرطة المحتل.
كان مهند أول الحكاية، ثم تبعه فادي وحذيفة، شهيدٌ يتلوه شهيد، صورهم تغطي صفحات شبكات التواصل الاجتماعي، الجميع يكتب عنهم ولهم، قصائد رثاء ودعاء وشعرٌ وحكايا، تمجيدٌ وحبٌ ومباركة.
فجأة يجتاح فضاءنا الإلكتروني خطابٌ آخر، خطابٌ استعطافي يتحدث عن الشهداء كضحايا مسالمين استشهدوا بينما يقومون بمهام حياتهم الطبيعية في محيطهم "الطبيعي" والمتمثّل بالجوار الإسرائيلي وشرطة الاحتلال (بحسب ما يُفهم منه).
ربما علينا أن نكفّ حالًا عن تبني خطاب "ازرع زيتون، ازرع ليمون، ازرع تفاح.. مقاومتنا شرعية من دون سلاح" والذي أبهرنا به تلفزيون "فلسطين" في الأغنية المسماة جورًا وبهتانًا (وطنية) للفنان حافظ موسى.
إن هذه المزرعة قد تنتج محصولًا جيدًا في حال لم يحرقها المستوطنون قبل نضوجها، لكنها بالتأكيد لا تحرّرُ وطنًا، لا سيّما إن بِعنا ثمارها "لجيراننا الإسرائيليين" كما سمّاهم "أبو مازن" في خطابه في الأمم المتحدة، وهو خطابٌ آخر علينا أيضًا أن نكفّ عنه.
حين يستشهدُ شبابنا نتيجة أو خلال قيامهم بعمليات فردية (جهادية/ نضالية/ مُقاومِة) انشروا قضيتهم كما هي بفخر، احكوا قصصهم بتفاصيلها حتى آخر لحظة شموخ، لا تُلبسونهم ثوب الضحيّة المسكين الضعيف، أَبقوا عليهم ثوبَ الأبطال الذي ارتضوه لأنفسهم حين ضحّوا بها في سبيل قضيتهم. في سبيل الله والوطن.
اقرأ أيضا:شاب فلسطيني يقتل مستوطنين اثنين بالقدس و"الجهاد" تتبنى العملية
مهند حلبي وفادي علون وحذيفة سليمان، ثلاث شاماتٍ في جبين الوطن، عَزَموا على قتال المحتلّ، أعدّوا لذلك عُدّتهم، ذهبوا بأرجلهم للقائه رجلًا لـ"صهيوني"، اشتبكوا، قاتلوا، واستشهدوا خلال ذلك؛ هذه هي الحقيقة ولا نخجل منها لا داخليًا أمام حكومات العار ولا خارجيًا أمام المجتمع الدولي.
مهند وفادي وحذيفة لم يستشهدوا بقذيفة سقطت على منزلهم عشوائيًا، ولم يتم اغتيالهم بينما يتسكعون في شوارع المدينة ومن فوق رؤوسهم قلوبٌ وعصافيرٌ تدور، كما لم تجد رصاصات المحتل طريقها إليهم بينما يزرعون الزيتون والليمون أو أي ثمرة أخرى.
ليس علينا ادّعاء هذا لنقنع أيًا كان بعدالة قضيتنا، فوجود المحتل على أرضنا بكل حيثياته هو في ذاته اعتداءٌ صارخ، ولا ينبغي لنا خلال محاولتنا تقريب لغة الحوار للغرب والمجتمع الدولي أن نذوب ذوبانًا كاملًا في مصطلحاته ودلالاتها وبالتالي ثقافتها التي يفرضها علينا.
حقنا في أرض فلسطين– كل فلسطين- هو أساسٌ نحفظه في خانة المُسلّمات، والدفاع عنها وعن شعبها بالقوة، كما احتُلّت بالقوة، هو حقٌ أصيلٌ لا يسقط بالتقادم وإن لجأنا لطرق ومسارات مقاومة أخرى بالتوازي، سواء أكان ذلك على ساحات الفضائيات والمنظمات الحقوقية أو على الطاولة المستديرة للأمم المتحدة.
إنك بمجرد أن تخجل من التصريح بفعل المُقاوِم، فأنت تُوقّع ضمنيًا على وثيقة إسقاط حقك في هذه الأرض وتَهوي بالقضية إلى مستوىً أقل بكثير من "قضية وطن".
وعلى ما أسلفت، فإنني لستُ أنكر أهمية انتقاء الخطاب الإعلامي الموجه للخارج، ولا أحُطُّ من أهمية أنسنة القضية لدى الوعي الدولي، بل إنني أدعو لرسم قضيتنا للعالم كما هي وكما نراها نحن، لا كما تريد إسرائيل وجاراتها وشقيقاتها أن يراها، وأدعو ألا يقودنا انتقاء الخطاب للإخلال بصُلب القضية، ولابد أن نعرف متى نتحدث عن الشهيد كضحية ومتى نتحدث عنه كبطل كفاحه المسلح كفاحٌ مشروع لأجل قضية عادلة.
مهند وفادي وحذيفة كانوا أبطالًا لا مساكين، قاتَلوا فقُتلوا فسبقونا إلى ربهم شهداء رافعي الرؤوس وخناجر الحق، فزغردت الأمهات وضمّتهم فلسطين إلى حضنها.