تبرز الخلافات على إيجاد مصطلح دقيق لتوصيف الأحداث التي اجتاحت عدداً من دول الشرق الأوسط، وتحديداً المنطقة العربية، حيث كان الربيع العربي هو أول تسمية أطلقت على هذا الحراك العربي لإسقاط الدكتاتوريات التي تسلّمت زمام الأمور في البلاد بقوة السلاح، وتسلّط العسكر، وتحويل هذه البلاد إلى دول عميقة وأنظمة شمولية، ترى في رئيس البلاد حاكماً أبدياً، وفي بعض الأحيان حكماً وراثياً، كما حصل في سورية، على الرغم من أن نظام الحكم ـ وبحسب الدستور ـ هو نظام جمهوري برلماني، يتمّ بموجبه انتخاب الرئيس، أو الاستفتاء على شخصه بالاقتراع المباشر؛ ما شجّع الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك على تهيئة ابنه جمال كوريث للبلد، كما لم يخرج معمر القذافي عن السياق العام بتتويج ولده سيف الإسلام ولياً للعهد من بعده، في إشارة إلى تحول هذه البلدان إلى جمهوريات ملكية، بمباركة شعبية مزعومة، تفرض على الشعب بقوة الأجهزة الأمنية التي تعتقل كل من يحتجّ على رغيف الخبز، وقد يذوب في غياهب المعتقل إلى أن يموت، أو يقتل تحت التعذيب، أو يعدم بقرار محكمة صورية يقودها أحد أزلام النظام.
لعلّ التقارب الشديد بين مفهومي الحرب الأهلية والثورة في التعريف السياسي، هو ما جعل هذا الخلاف أكثر عمقاً، وأكثر حدّة بين المنظّرين أنفسهم؛ فالثورة، وكما جاء في أدبيات الثورة الفرنسية، التي أسّست لتاريخ الثورات المعاصرة، هي خروج طلائع مثقفي الشعب لتغيير الحكم بالقوة، أما الحرب الأهلية، فهي الصّراع بين مكوّنات بلدٍ ما للسيطرة على الحكم، وهي الحالة القصوى للدفع باتجاه رفع الظلم عن الشعب، من قبل حكومة قصّرت في منح الشعب حقوقه، وعملت على قمعه، إلا أن هذه التعبيرات والتعريفات التي يسوّقها الفكر السياسي تقابل بعدم قبول من قبل صانعي الثورات، خاصة عندما يقال عن أي ثورة إنها تحولت إلى حرب أهلية كاملة الأركان. وبالتالي، فإنّ الحرب الأهلية في منظور أولئك "الثوار" هي إساءة لدماء "الشهداء"، والتقليل من حجم الجرائم التي ترتكبها الأنظمة الحاكمة في تلك البلدان، ويرى آخرون أنّ مصطلح الحرب الأهلية جاء للمساواة بين الظالم والمظلوم وبين الضحية والجلاد..
عندما قامت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في نهاية عام 1987، وقف الجميع أمام مصطلح جديد فرضه واقع الحال، فهو ليس ثورة بسبب وجود قوة احتلال، وليس حرباً، لأن الحجارة قوامها الأساسي، وليست حرباً أهلية بطبيعة الحال، فكان مصطلح الانتفاضة هو السائد آنذاك، حيث اعتبره بعض مثقفي فلسطين انتصاراً فكرياً، من حيث أنه تم فرض مصطلح جديد على وسائل الإعلام العالمية بصناعة فلسطينية. وبالعودة لما يحدث الآن في سورية، وهذا الاختلاف الكبير بين مكونات المعارضة السورية على تثبيت مصطلح محدّد، اعتمدت بعض وسائل الإعلام على تسمية "حرب أهلية"، وبعضها الآخر على تسمية "ثورة"، وبالتالي فإنّ الخلاف الذي نشأ بين معارضي الخارج، الذين اعتبروا الوضع السوري "ثورة" بامتياز، ومعارضي الداخل الذين رفضوا مفهوم الثورة وأطلقوا عليه تسمية "حراك سلمي"، لأنهم يتوخّون الإصلاح داخل النظام، فقد أربك هذا الخلاف بعض المراقبين الدوليين حول كيفية النظر إلى ما يحدث في سورية على اعتباره ليس ثورة بنظر بعض السوريين المعارضين، وليس إصلاحاً للنظام بنظر بعض المعارضين الآخرين، أما من يؤيدون النظام فهم يعتبرون أنها حرب خارجية على سورية!
غير أنّ الثابت في الوضع السوري هو إنكار مفهوم الحرب الأهلية من قبل كل الأطراف، المعارضة والمؤيدة للنظام الحاكم، على الرغم من اكتمال عناصر الحرب الأهلية في سورية، وخاصة أن الحرب باتت على أشدّها بين الأطراف السورية، بمساندة دول الإقليم والمجتمع الدولي، حيث يمكن اعتبار أن الحرب الاهلية هي حرب داخلية في بلد ما، حيث تكون أطرافها مكونة من جماعات مختلفة من السكان. كل فرد فيها يرى في عدوّه وفي من يريد أن يبقى على الحياد، خائناً لا يمكن التعايش معه، ولا العمل معه في نفس التقسيم الترابي، حيث تشكل الحروب الأهلية في أي بلد فرصة كبيرة لتدخل القوى الإقليمية والدولية في شؤون البلاد، حيث يقوم كل بلد بدعم أحد أطراف الصراع، لاعتقاده أن الإخلال بموازين القوى داخل الصراع قد يؤثر على البلد المجاور، إما خوفاً من انتقال عدوى الحرب إليه، أو ربما لمكاسب توسعية من خلال السيطرة على البلد المنهار، بعد انتصار الجهة التي يدعمها، وهو ما حصل فعلاً من خلال سيطرة النظام السوري على لبنان أثناء الحرب الأهلية، واستمراره في السيطرة على هذا البلد بعد انتهاء الحرب بخمسة عشر عاماً، وإخراجه بقوة القرار الدولي رقم 1559 عام 2005 بعد اغتيال رئيس وزرائه السابق رفيق الحريري.
بعد مرور خمس سنوات على الأزمة السورية المتفاقمة، والمتورّمة، والمعقدة بشدّة، أصبح المشهد يوحي بشكل كبير أن الثورة السلمية التي بدأها الشباب السوري في 2011، قد دخلت في النفق الذي يريده النظام السوري، حيث استطاع هذا النظام أن يستجلب كل المتطرفين لقتاله، في واحدة من أهم المعطيات التي يعتمد عليها أي نظام شمولي، وهو صناعة العدو الافتراضي الذي يكرهه العالم المتحضّر، ويعطيه شرعية القتال، لأن العدوى قد تصل إليه، خاصة أن الحرب الافتراضية على المتطرفين بدأت في الصومال، لكنها لم تستطع شدّ انتباه العالم، فانتقل الصراع إلى أفغانستان وعملية 11 سبتمبر/ أيلول الشهيرة، ما جعل التأييد لكل حاكم مهما بلغ انتهاكه لحقوق شعبه أمراً يمكن التغاضي عنه، والدخول معه في تحالف للقضاء على هذا التطرف!
ما يزيد الطين بلّة أن القوى الثورية التي شكلت الجيش الحر قد بلعت الطعم، بالانتقال إلى فصائل متطرفة، ساعد على ذلك رفض المجتمع الدولي تسليح الجيش الحر بمقابل تسليح ـ غير معروف المصدر ـ للفصائل المتطرفة، حيث كان يعتقد البعض أن الهدف هو قتال النظام وإسقاطه، ولا أهمية للراية التي يقاتل تحت لوائها، ولكن المجتمع الدولي الذي استطاع أن يعطي النظام السوري فرصاً متعددة، كان يرى الإشكالية في الراية، وليس بمن يقاتل، ولماذا؟
ما يراه السوريون المعارضون ثورة، والمؤيدون حرباً "كونية على نظام المقاومة" و"الممانعة"، والإنكار الشديد لما آلت إليه الأحداث وتحولها إلى حرب أهلية مكتملة الأركان، لن يغيّر في معادلة التصنيف الذي يعمل عليه المجتمع الدولي، بحيث يصف ما يحصل في سورية على أنه حرب أهلية، تماماً كما صنّف ما حصل في إسبانيا بين عامي 1936 و1939، عندما ثار الإسبان على الديكتاتور فرانكو، واعتبروها حرباً أهلية وليس ثورة ضد طاغية، على الرغم من دعمه من قوى الشر النازية آنذاك، التي أشعلت حرباً عالمية ثانية، حيث لا يختلف المشهد كثيراً عمّا هو عليه الآن، من دعم إيران اللامتناهي لنظام الأسد في سورية، والتي تهدد في حقيقة الأمر بإشعال المنطقة بالكامل فيما لو خسرت حربها في سورية.
(سورية)