22 نوفمبر 2024
وَقعنا في الفخّ
دخلتُ محلّ حقائب وأحذية، لاقتناء حقيبةٍ يدوية بالأسود. بعدها برُبع ساعة، وصلني إشعارٌ عن إعلانٍ من "غوغل". لم يكن هذا الإعلان فقط عن حقيبةِ يدٍ، باللّونِ الأسود، ومن العلامة التّجارية نفسِها، على الرغم من أنّه لا أنا، ولا البائع نَطقنا اسمها؛ وعلى الرغم من أنّنا تحدّثنا عن الأشكال والألوان، لكنّنا لم نذكر سيرة العلامة مطلقًا. أكثر من ذلك، كان الإعلانُ عن الحقيبة ذاتها التي اشتريت، وباللّون الفضّي على المفتاح، مع أنّ هناك خياراً ثانياً باللّون الذّهبي، وآخر في نوع الجلد، بين الباهت واللّامع. المقصود، أنّه على الرغم من وجود خيارات كثيرة في المحل، وخياراتٍ أخرى في العلامة نفسها، إلّا أنّ "غوغل" اقترح عليّ الحقيبة التي اقتنيتُ بالضّبط، من دون أن أكون قد تحدّثتُ عن صفاتها أبدًا. ومع أنّ هاتفي كان موجوداً في حقيبتي، ولم أخرجهُ إلّا بعد ربع ساعة، في مكان آخر، لأجد الإعلان سابق الذّكر.
أيُّ عالم نعيش فيه؟ وكيف أصبحنا طرائد سهلة للشّركات الضّخمة؟ هل في هواتفنا كاميرات ومجسّات تعمل من داخل الحقائب، أو الملابس؟ حتّى برنامج تشغيل الكاميرات الذي صنعهُ، وتحدّث عنه الخبير السابق في المخابرات الأميركية (سي آي إيه)، إدوارد سنودن، بعد هروبه احتجاجاً على استعمال اختراعه لاقتحام الخصوصيات من دون حدود، ليس كافياً لتفسير ما حدث. وإذا كان الإقرار بوجود برنامجٍ يُشغّل كلّ كاميرا موجودة في جهاز متّصل بالإنترنت، في الكوكب بأكمله، قد تمّ منذ سنوات، فلا شك أنّهم توصّلوا إلى ما هو أخطر؛ شيء يمكنه تصوير كلّ ما يحدث في مساحة معينة من جهاز مرتبط بالشّبكة العنكبوتية، وتسجيله.
هنا أستعيد مقولة لبروتوغراس، بالغة التقدير للنّوع البشري، على حساب المخلوقات الأخرى،
وعلى حساب الكائنات التي تنتمي إلى الجذر الحيواني الذي نتشاركهُ مع ملايين الكائنات، لها هدف ومعنى من الوُجود على الأرض، قد لا يقلّ معنىً وسمواً من وجودنا نحن عليها، وربما يفوقنا، لأنّها لا تكلّف ما نكلّفه نحن للأرض، وللمحيط البيئي، من خسائر تفوق فائدتنا له. يقول فيها: "الإنسانُ مقياس ما يوجد وما لا يوجد، الإنسان مقياس الأشياء كلها". ومن هذه الزاوية المُقدِّرة للإنسان، نستحضر كيف أصبح الفردُ، بالغ الأهمية، في حد ذاته، بغضّ النّظر عن أي تفصيلٍ آخر؛ وهذا لا يعني الجانب الإيجابي دائماً. الآن، هو فعلاً مقياسُ كلّ شيء، لكنه مقياس تجاري، لا مقياس قيم ومعارف.
ومع أنّ الحرية تبدو، في عالمنا الحالي، أكثر تجلياً من أي وقت آخر؛ فأنت حرٌّ في السّفر "ولو بشروط"، مع كلّ هذه الوسائل التي تحلّقُ بك، بين القارّات في ساعاتٍ محدودة؛ وحرٌّ في أن تشتغل في المهنة التي تحبّ، بدلاً من أن ترث مهنة الآباء والأجداد في المكان نفسه؛ وتدرس ما تحبّ، في بلدكَ أو بلدانٍ أخرى، ويمكنك الحصول على منحٍ دوليةٍ للدراسة، إن استحققتها من دون وسيط. ويمكنُ أن تختار ملابسك، ولو بشكلٍ نسبي عندنا، لكن مع تغييرِ العتبات فقط، والابتعادِ عن الأمكنة التي تُحاصرك، إلى أمكنةٍ حرّة. يمكنك فعل كل شيءٍ لحماية حريتك، من العوائق، وتقريرِ مصيرك، بشرط أن تجتهد في ذلك.
لكنّها حرية خادعة؛ فمقابل الوسائل التي تُمكّنك من تجاوزِ الحدود، وتغييرِ ما لا يتغيّر، عليك دفع ثمنٍ غال. إذ ليس في وسعك فعل شيءٍ واحد، من أجل أن تكون حرّاً فعلاً، ومحمياً وغير محاصر، من الوسائل التي تسهّل كل ما سبق، فذلك كله لم يُقدَّم لك مجاناً؛ إذ كلّ فرصة جديدة تحصُل عليها، في حياتك، ستدفع ثمنها. وكلّ معاملةٍ سهلةٍ كانت تستغرق زمناً طويلاً، وكلّ معلومة وصلت إليك بيُسر، بنقرةٍ على محرّك البحث، ستجعل منك صيداً، وتُصبح بدورك معلومة تُقدَّم لعدد هائل ممن يستهدفونك، ويسجّلون خطواتك. أنت الطّعم الآن، ولن تكون مستفيداً من التّقنية فقط، لكنك ستفيد غيرك، ولن يكونوا أمثالك، أفراداً يسعون إلى حل مشكلاتٍ صغيرة، بحجم طموحاتهم التي لا تخرج عادة عن أشياء الحياة اليومية، ومُتعِها الصّغيرة.
ستقول إنّك نكرة، ولا أحد يهمّه ما تفعلهُ أو تقوله. لكنّك واهم، أو في أحسن الحالات، أنت جاهل؛ لأنّك مهمٌّ، وثمين، لمجرّد كونك إنساناً؛ أو بالأحرى فردا، هدفا، زبونا، ضحية. وإذا لم تكن صالحاً لذلك كله، ستصلحُ فأرَ تجارب، يختبرون عليك السّلوكات الاستهلاكية، أو العدوانية، أو أيّ نوعٍ من التّجارب التي تحتاج فئران مختبرات، فهناك ملايين الشّركات التي تستهدف نوعك "البشري"، وأنتَ في جميع الحالات "فرداً أو منتمياً إلى مؤسسة" تستهلك التقنية، وهي الأكثر إغراءً بالاستثمار، وجلب الزبّائن. وأنت زبونٌ مُحتمل، أو عيّنة لزبائن محتملين. المهم أن تعيد النّظر في كونك عديم الأهمية، لأنّ مقياسها لا تحدّده أنت، ولم تعد تُحدّده المخابرات التي تبحثُ عن مصادر تهديد؛ سواء مخابرات بلدك العتيدة، أو مخابرات دولٍ لا تعلم بوجودها على الخريطة، خصوصا إذا كنت تنتمي إلى بلدان سيّئة الحظ جغرافياً مثل بلداننا.
وبالتالي، أنت إرهابي محتمل، أو أسوأ حظاً، بحيثُ لن يكون لك هذا الشّرف، وستكتفي بأن تكون
عيّنة مختبرٍ مرّة أخرى، لأنّك تحمل جينات الإرهابيين المحتملين، ويجب أن تعرف عشراتُ الجهات التي تدرس طرق مكافحة التّهديدات من شركات أسلحة، ومعدّات تجسس، ومن مراكز أبحاث تدرّس وتحلّل الأخطار، والتّهديدات مقابل مبالغ فلكية. كلّ هذه الجهات، تريد أن تعرف ماذا يمكن أن تفعل، في أي تفصيل مملّ، من تفاصيل الحياة.
قد وقعتَ في الفخ، وأنت ضحيّة في كل الأحوال، ومهما هربت، أو تهرّبت، ستجد أنّك تحمل صفاتٍ تجعلك هدفاً. بهذا المعنى، أصبحنا جميعاً ندرك هذه الحقيقة، بعد عشرات الأدلة التي حاولنا إنكارها، أصبحنا نعرف أننا عراةٌ تماماً، أمام أعينٍ غريبة. من خلال الإعلانات التي تهاجمنا، بمجرّد أن نتحدّث عن منتوج، أو نبحث عنه في الإنترنت، أو ندخل محلاً تجارياً، أو نسافر، أو نأكل وجبةً تافهة في مطعم... نجد أنفسنا بعدها محاصرين بالإعلانات، عن منتوجات منافسة في المجال نفسه. وتطوّر الأمر إلى درجة أنّنا نرى إعلاناتٍ لأشياء فكّرنا فيها، ولم نذكرها لأحد، إلى درجة أن إمكانية قراءة عقولنا تصيبنا بالرّعب.
لقد وقعنا في الفخ. وهو فخٌ صنعناه بأيدينا، ولا نعرف هل نواصل ادّعاء الحرّية، أو نعود إلى الخلف، بعد أن نكسر كل الذكاء الذي يدّعي خدمتنا. وإذا فعلنا نحن، هل نستطيع إقناع الآخرين ممن نعيش ونعمل معهم، أن يتركوا أجهزتهم في البيت، حين نلتقي أو نخرج معاً، لنكون أحراراً ولو لبعض الوقت؟ ثم ألا يمكن لهم استهدافنا ما دمنا نعيش في أمكنة مفخّخة، بأجهزة من نقاسمهم الفضاء؟ هل سيكون علينا الهروب إلى الخلاء، لننعم بالسلام والخصوصية؟ هل نعود إلى الحياة البدائية لنعود أحراراً؟
هنا أستعيد مقولة لبروتوغراس، بالغة التقدير للنّوع البشري، على حساب المخلوقات الأخرى،
ومع أنّ الحرية تبدو، في عالمنا الحالي، أكثر تجلياً من أي وقت آخر؛ فأنت حرٌّ في السّفر "ولو بشروط"، مع كلّ هذه الوسائل التي تحلّقُ بك، بين القارّات في ساعاتٍ محدودة؛ وحرٌّ في أن تشتغل في المهنة التي تحبّ، بدلاً من أن ترث مهنة الآباء والأجداد في المكان نفسه؛ وتدرس ما تحبّ، في بلدكَ أو بلدانٍ أخرى، ويمكنك الحصول على منحٍ دوليةٍ للدراسة، إن استحققتها من دون وسيط. ويمكنُ أن تختار ملابسك، ولو بشكلٍ نسبي عندنا، لكن مع تغييرِ العتبات فقط، والابتعادِ عن الأمكنة التي تُحاصرك، إلى أمكنةٍ حرّة. يمكنك فعل كل شيءٍ لحماية حريتك، من العوائق، وتقريرِ مصيرك، بشرط أن تجتهد في ذلك.
لكنّها حرية خادعة؛ فمقابل الوسائل التي تُمكّنك من تجاوزِ الحدود، وتغييرِ ما لا يتغيّر، عليك دفع ثمنٍ غال. إذ ليس في وسعك فعل شيءٍ واحد، من أجل أن تكون حرّاً فعلاً، ومحمياً وغير محاصر، من الوسائل التي تسهّل كل ما سبق، فذلك كله لم يُقدَّم لك مجاناً؛ إذ كلّ فرصة جديدة تحصُل عليها، في حياتك، ستدفع ثمنها. وكلّ معاملةٍ سهلةٍ كانت تستغرق زمناً طويلاً، وكلّ معلومة وصلت إليك بيُسر، بنقرةٍ على محرّك البحث، ستجعل منك صيداً، وتُصبح بدورك معلومة تُقدَّم لعدد هائل ممن يستهدفونك، ويسجّلون خطواتك. أنت الطّعم الآن، ولن تكون مستفيداً من التّقنية فقط، لكنك ستفيد غيرك، ولن يكونوا أمثالك، أفراداً يسعون إلى حل مشكلاتٍ صغيرة، بحجم طموحاتهم التي لا تخرج عادة عن أشياء الحياة اليومية، ومُتعِها الصّغيرة.
ستقول إنّك نكرة، ولا أحد يهمّه ما تفعلهُ أو تقوله. لكنّك واهم، أو في أحسن الحالات، أنت جاهل؛ لأنّك مهمٌّ، وثمين، لمجرّد كونك إنساناً؛ أو بالأحرى فردا، هدفا، زبونا، ضحية. وإذا لم تكن صالحاً لذلك كله، ستصلحُ فأرَ تجارب، يختبرون عليك السّلوكات الاستهلاكية، أو العدوانية، أو أيّ نوعٍ من التّجارب التي تحتاج فئران مختبرات، فهناك ملايين الشّركات التي تستهدف نوعك "البشري"، وأنتَ في جميع الحالات "فرداً أو منتمياً إلى مؤسسة" تستهلك التقنية، وهي الأكثر إغراءً بالاستثمار، وجلب الزبّائن. وأنت زبونٌ مُحتمل، أو عيّنة لزبائن محتملين. المهم أن تعيد النّظر في كونك عديم الأهمية، لأنّ مقياسها لا تحدّده أنت، ولم تعد تُحدّده المخابرات التي تبحثُ عن مصادر تهديد؛ سواء مخابرات بلدك العتيدة، أو مخابرات دولٍ لا تعلم بوجودها على الخريطة، خصوصا إذا كنت تنتمي إلى بلدان سيّئة الحظ جغرافياً مثل بلداننا.
وبالتالي، أنت إرهابي محتمل، أو أسوأ حظاً، بحيثُ لن يكون لك هذا الشّرف، وستكتفي بأن تكون
قد وقعتَ في الفخ، وأنت ضحيّة في كل الأحوال، ومهما هربت، أو تهرّبت، ستجد أنّك تحمل صفاتٍ تجعلك هدفاً. بهذا المعنى، أصبحنا جميعاً ندرك هذه الحقيقة، بعد عشرات الأدلة التي حاولنا إنكارها، أصبحنا نعرف أننا عراةٌ تماماً، أمام أعينٍ غريبة. من خلال الإعلانات التي تهاجمنا، بمجرّد أن نتحدّث عن منتوج، أو نبحث عنه في الإنترنت، أو ندخل محلاً تجارياً، أو نسافر، أو نأكل وجبةً تافهة في مطعم... نجد أنفسنا بعدها محاصرين بالإعلانات، عن منتوجات منافسة في المجال نفسه. وتطوّر الأمر إلى درجة أنّنا نرى إعلاناتٍ لأشياء فكّرنا فيها، ولم نذكرها لأحد، إلى درجة أن إمكانية قراءة عقولنا تصيبنا بالرّعب.
لقد وقعنا في الفخ. وهو فخٌ صنعناه بأيدينا، ولا نعرف هل نواصل ادّعاء الحرّية، أو نعود إلى الخلف، بعد أن نكسر كل الذكاء الذي يدّعي خدمتنا. وإذا فعلنا نحن، هل نستطيع إقناع الآخرين ممن نعيش ونعمل معهم، أن يتركوا أجهزتهم في البيت، حين نلتقي أو نخرج معاً، لنكون أحراراً ولو لبعض الوقت؟ ثم ألا يمكن لهم استهدافنا ما دمنا نعيش في أمكنة مفخّخة، بأجهزة من نقاسمهم الفضاء؟ هل سيكون علينا الهروب إلى الخلاء، لننعم بالسلام والخصوصية؟ هل نعود إلى الحياة البدائية لنعود أحراراً؟
مقالات أخرى
15 نوفمبر 2024
08 نوفمبر 2024
01 نوفمبر 2024