اقتحام السفارة وانحيازات الثورة
تُلاحقنا الاتهاماتُ أينما ذهبنا، لا من الخصومِ وحدهم على الجوانبِ الأخرى، وما أكثرها! لكن من بعض الرفاق أيضًا، أولئك الذين تشاركنا معهم الحلم والخسارة، ويبدو أنّ انخراطنا في المعركة تباينت منطلقاته، وغاياته ربّما.
وأكثر هذه الاتهامات مدعاةً للاستغرابِ (وأذكرها الآن لأنّ اليوم ذكراها)، هو ارتكابنا "حماقة" استعداء الغرب، خاصّة العدوّ والأميركان باقتحامنا لسفارةِ الكيان الصهيوني في التاسع من سبتمبر/ أيلول 2011؛ إذ أرسل حراكنا ذاك (في رأيهم) رسالةَ عداءٍ استعجلت إجهازهم على الثورة وقضاءهم تمامًا على احتمالاتِ انتصارها.
وهذا الطرح يَفترضُ ابتداءً، أنّ إعلانات العداء لـ"العدو"، في مراحل الثورة الأولى، كانت مبرّرًا للتخلّص منها، وربّما لولا ذلك لما "اضطرّ" هؤلاء للقيام بالإجهاز على الثورة في مهدها.
ولعلّ هذا أهمّ ما في هذا الطرح/الاتهام من خلل، إذ يُفترضُ بالتبعيّة أنّ هذه القوى والحكومات كانت تقبل أو تتقبّل وجود "ثورة" ترفع شعارات الحريّة والعدالة الاجتماعيّة في موقعٍ بحيويّة وخطورة مصر، لتنتصرَ أو حتى تكتمل تجربتها في مسارها الطبيعي واختباراتها مع الجمهور والبرنامج والتحدّيات.
وطرحٌ كهذا يتجاهلُ حقيقة تموضع هذه القوى (وأذيالها في المنطقة)، من كلِّ حركةِ تحريرٍ أو حريّة، ومن أيِّ خطابٍ وتوجّه نحو العدالة في أيِّ مجتمعٍ نامٍ، كما يتجاهل احتلالاتهم اللامنتهية وتدميرهم البلاد ونهبهم للمقدّرات، وانقلاباتهم بطول البسيطة وعرضها، فقط وقوفًا في وجه أيّ حركةِ تغييرٍ جاد للحريّة أو العدالة، لا تسير على الكاتالوغ الأميركي، وتحصل على المباركة الأميركية، اعترافًا بالعدوّ وتطبيعًا معه، وانخراطًا في معاركها بعيدًا عمّا سيقع عليه، واكتفاءً بالحريّة الأميركيّة في حدود المعتقد الديني (السياسي لا) والنوع الاجتماعي، وربّما في ذيل القائمة بعض الديمقراطيّة الشكليّة/الإجرائيّة.
القرار كان محسوماً: سنخرج من التحرير إلى السفارة لنعلن موقف الثورة من العدو ودعم المقاومة المسلحة بوضوح
وهذا ما ينقلنا رجوعًا لما جرى في عام 2011 أثناء أيّام الثورة الخاطفة، فقد تنفع الذكرى: العلم الوحيد الذي اقتُرن بعلم مصر بطول أيّام وأحداث الثورة، دون سببٍ لحظي كحدث أو موقف أو ذكرى، هو علم فلسطين، ولأنّي شاركتُ في الهتافاتِ بطول أيّامها، لم يفت يوم أو شطر منه لم نهتف لفلسطين والتحرير (كامل التراب المحتلّ). صحيح المواقف داخل الصفّ الثوري تباينت، لكنّها انحازت بالكليّة للقضيّة وتحرير البلاد. وصحيح جرى خلاف شديد وصل للصدام، خاصّةً تحت تهديد المجلس العسكري ورسائل دبلوماسيين وغيرهم، حين طرحتُ فكرةَ المسير للسفارة وهدم السور، إلا أنّ القرار كان محسومًا: سنخرج من التحرير إلى السفارة لنعلنَ موقف الثورة من العدو ودعم المقاومة المسلّحة بوضوح.
وقد سبق ذلك وتبعه تسييرنا لقوافل دعم وإغاثة باتجاه قطاع غزّة، انطلقت من ميدان التحرير تحت دعوة الحركات المكوّنة لائتلاف شباب الثورة بجانب الأحزاب والقوى السياسيّة، كما لم ينتفِ ذكر الصراع وانحيازنا فيه بأيِّ موقفٍ للثورة وشبابها بطول حياتها القصيرة، سواء رفضًا لكامب ديفيد والاتفاقات الأمنيّة والمعلوماتيّة والتجاريّة (وغيرها) مع العدو، أو دعمًا للمقاومة المسلّحة وكلّ صورةِ مقاومةٍ يقرّرها الشعب الفلسطيني وفصائله، أو تمسّكًا بالحقّ الفلسطيني في كامل الأرض/الوطن بعيدًا عمّا رضخ له العرب وتبنّوه من خزعبلات كحدودِ الـ67 مثلاً.. إلى آخر قائمة الدعم والانحياز الحاسم.
مسح عار وجود سفارة للعدوّ في قلب القاهرة وعلمها يرفرف فوق النيل لعشرات السنين، واحد من أهم منجزات ثورة 25 يناير2011 على الإطلاق
ولعلّ مسيرة الشواكيش واقتحام السفارة في التاسع من سبتمبر/ أيلول2011، كان ذروة التجلّي لموقف الثورة، لكنّه لم يكن منفصلاً عن مسارٍ طويلٍ، بدأ قبل ذلك بكثير (سبقت الإشارة إلى ذلك في نصوصٍ سابقة عن علاقة القضيّة الفلسطينية بالسياسة المصريّة وأثرها فيها حراكًا وتشكيلاً) واستمرّ حتى اليوم؛ انظر لموقف شباب الثورة وبناتها (وإن لم نعد شبابًا بعد)، وعلى الجانب الآخر راجع مواقف فلول نظام مبارك أو راقصي سلطة الانقلاب وزمّاريها، وستعرف يقينًا: من العميل والخائن؟
خلاصةُ القول: عوامل الهزيمة كثيرة، وأوّلها في رأيي أنّها "ثورة" تصطدم بمصالح (وربّما وجود) هؤلاء الذين تكالبوا عليها لسحقها غربًا وشرقًا وداخليًّا، وإعلاناتها المبكّرة لانحيازاتها شرفٌ لا تهمة، يجب التمسّك به لا التنصّل منه.
كما يجب التذكير بأنّ مسح عار وجود سفارة للعدوّ في قلب القاهرة وعلمها يرفرف فوق النيل لعشرات السنين، واحد من أهم منجزات ثورة 25 يناير2011 على الإطلاق، ولعلّ أهمّ ما فيه كذلك هو إعلانه أنّ هذه ثورةٌ تعرفُ عدوّها وطريقها وغايتها، وأنّ فلسطين الوطن والقضيّة والصراع الطويل في قلب كلّ حركة تغيير حقيقيّة وجادة، جاءت أو ستجيء، على هذا البلد المسكين (مصر).