دراما رمضان.. من أجل شعبٍ مصريٍّ آخر!
من الوهلة الأولى وأنت جالس أمام التلفاز، تفتح القنوات والمواقع، لتتابع مسلسلاً (أي مسلسل مصري) على الإفطار، أو بعده، فإنّ مصر لن تخطر على بالك إلا عبارة عن فِلَل وقصور فارهة في "مدينتي" أو التجمّع أو الرحاب في القاهرة، أو السخنة ودهب والغردقة، وإنّ لدى كلّ أسرة بيتاً تحيط به حدائق ذات بهجة، وتتخلّله أنهار وحمامات سباحة، وبه ملحق للزروع والنباتات والجلسات "الرايقة"، ولديهم سائق، وسيارات ثمينة، وسيدة تجلب لهم كلّ ما يشتهون من مأكل ومشرب.
لهم جيران من المستوى نفسه، تدور السلامات الصباحية بينهم بشكل سلس له رائحة المنظفات والمعقّمات والشامبو المستورد، وأقصى ما بينهم من خلافات تتعلّق بأبنائهم الذين يدرسون في مدارس "إنترناشونال" ويخلطون العربية بالإنكليزية خلطاً قبيحاً، حتى تتخيّلهم مقيمين في نيويورك، لا على بُعد خمسين كيلومتراً من السيدة زينب والغورية والسبتية، وتدور حواراتهم حول قضاء العطلة في باريس أو مانشستر، ويعملون كلهم عن بُعد، أو مديرين لشركات تمنح إجازة سنوية 11 شهراً في العام.
تبدو البيوت لامعةً أكثر من اللازم، وتبدو المطابخ كأنها لسيدات من الجنة، وتبدو الشوارع والطرق والمطاعم خاليةً من الآخرين، الذين يرتدون ملابس عادية، بعيداً عن الأحذية الرياضية، وأطقم أديداس، والبدلات الكحلية وربطات العنق، وتبدو الدنيا مثاليةً للغاية، مرتبةً بشكل مستفز، حتى لا يخطر في بالك إلا جملة من عملٍ آخر، يقول فيها الريّس: "وديتوا الناس فين يا حسن؟".
في الحقيقة، إنّ لهذه المجتمعات الفارغة، المحاطة بأسوار عالية، التي تنقلها الدراما بعيداً عن الواقع المسحول فيه المشاهدون كلّ يوم، وجوه عدّة، أولها الجبن، والخوف من مواجهة المجتمع الحقيقيّ ومعالجة قضاياه، لأنّ ذلك يعني الاحتكاك بالسلطة المسؤولة عمّا تؤول إليه أوضاعه من فقر وفساد وبطالة وضياع وجوع، فإنّ شركة الإنتاج التي غالباً ما يجلس على رأسها (فوق المخرج والمنتج وفريقهما) رجل تعلو النجوم والنسور كتفيه، يروقها هذا النوع من المخدرات، التي تأخذ المُشاهد إلى غياب تام عن الواقع المرير، لا تعالج مشكلاته، ولا تحتكّ بأي شكل بطبقته، بل تجعله في حرم مسلسل "مستورد" يتحدث أبطاله العامية المصرية.
في الدراما المصرية اليوم، تبدو أزمة منتصف العمر أهم من أزمات نصف الشعب، والبحث عن الحبّ لسيدة تعول أربعة أطفال أهم بكثير من البحث عن لقمة العيش!
والوجه الآخر احتقار هذه الأغلبية الساحقة، وبُعد تام عن موضوعاتها، واشمئزاز من كثرة شكاواها وهمومها، فإنّ أزمة منتصف العمر أهم من أزمات نصف الشعب، والبحث عن الحبّ لسيدة تعول أربعة أطفال أهم بكثير من البحث عن لقمة العيش، ومحاربة المجتمع من أجل نفي بعض العادات والتقاليد وسحقه تحت رحى التنظير، وتحميله وحده مسؤولية جهله أو تخلّفه، أهم بكثير من مواجهة السلطة التي سبّبت جهل تسعين مليون إنسان، وتغييبهم، وإفقارهم، وجعلهم يعيشون أسوأ المراحل العصيبة في تاريخ بلادهم.
حتى المسلسلات التي ستنقلك إلى الريف أو الصعيد أو المناطق الشعبية، ولو قليلاً، لن تجدها تعالج أيّاً من "بلاوي" تلك الأماكن، بل سترسّخ الصورة الذهنية القبيحة المغلوطة، بجعل تلك المجتمعات عبارةً عن "عزبة" أو حارة، لها "كبيرها" البلطجيّ الشريف، وآكل الحقوق الذي يفتن نساء الحارة، والغنيّ الذي يلحس الجميع حذاءه، الذي يسكب حكماً كلّما تحدّث، ولا ينطق إلا بآداب تدرّس، وبعبارات مقفّاة مسجوعة، يتعلم منها الجميع، وخصوصاً الفقير الحقير الذي ينازعه في ملكه، ويحاول أن ينتقم لماضي أهله الذين ماتوا من الجوع.
بين هذا وذاك، لن تجد مصر أبداً في أعمالها، ولن تستطيع الاطلاع على الشارع الحقيقيّ من نافذة التلفاز، ولن تتبيّن ما يعانيه المصريون، ولو في مشهد عابر، لأنّ المخدرات هي السلعة الأكثر رواجاً في أوقات اليأس المتأزم، ولأنّ المسكّنات والخيالات المثالية هي المهرب الساذج من سوداوية الواقع، ولأنّ "المخرج الأكبر"، على كرسيّه طويل الأرجل، الذي يجلس خلف الكاميرا، ويشرف على كلّ كلمة وحوار ومشهد وتتر، "عاوز كدا".