ذكرى مقتل الشهيد محسن فكري... ما الذي تغيّر؟
ست سنوات مرّت على سحق بائع السمك، محسن فكري، في شاحنة للنفايات بمدينة الحسيمة، من قبل ممثلين للسلطات العمومية المغربية؛ محسن الذي رفض مصادرة أسماكه غير المرّخصة، فانتهى به المطاف، وأسماكه، مطحونين مع الأزبال والبقايا المخلّفة.
هذه الأسماك، كانت تشكّل مصدر تمويل لمعيشة الشهيد محسن فكري اليومية، ليس وحده فحسب، بل معه حوالي 77% من المقاعد التي يوّفرها قطاع الشغل بصورة غير نظامية ولا رسمية.
أطلق قتل فكري شرارة الثورات في الريف المغربي، حيث خرج المواطنون من مختلف النواحي، من الحسيمة وإمزورن وبني بوعياش وغيرهما، لمناهضة الوحشية التي تعرّض لها وهدرت دمه بكلّ عبثية وبرودة، منتهزين الفرصة للتذكير بالحصار الذي تعيشه المنطقة منذ مدّة، وظروف العيش غير الكريم. لم يمرّ وقت طويل حتى سُطّرت لائحة مطلبية، حالما يطلع المرء عليها، يتساءل: هل هذا هو مغرب الزليج والفوسفات والواجهتين البحريتين، مغرب الأوراش والمشاريع الكبرى.. وغيرها من الأوهام التي بيعت للمغاربة على مرّ سنوات؟
شملت المطالب مختلف القطاعات والمجالات، الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية وحتى القانونية. مطالب مشروعة، ابتداءً من فتح تحقيق في مقتل محسن فكري ومحاكمة المتورطين، إلى رفع اللبس عن قضية شهداء البنك الذين أحرقوا سنة 2011، مروراً بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ووصولاً إلى المطالبة بجامعة ومدارس ومراكز صحية... وغيرها من المؤسسات والإجراءات الضرورية والعاجلة. سرعان ما توّسعت دائرة الاحتجاجات لتضمّ كلّ المدن المغربية تقريباً، مؤازَرة لإخوانهم في الريف، واحتجاجاً على الوضع المتدهور العام، يوّحدهم شعور الذل والإهانة المشترك، أو كما يلخصه المغاربة في تعبير أكثر بلاغة "الحكرة".
الوضع اليوم لا يبعث على التفاؤل، فقر، جفاف، تضخم، استفحال للفساد والطغيان، أزمة في الأخلاق والمبادئ والقيم
دامت الاحتجاجات السلمية حوالي سبعة أشهر، قُوبلت بالقمع العنيف والدموي من جهة، وبحملات تشهير واتهامات بالخيانة والانفصالية من جهة أخرى، وهي اتهامات مُحكمة التنزيل وقديمة الطراز. فاق عدد المعتقلين على خلفية الحراك 300 معتقل، وزّع عليهم القضاء المغربي أحكاماً بالسجن، لكن كثيرين منهم استفادوا من العفو الملكي في السنوات التي تلت. القائد الشاب، ناصر الزفزافي، ورفاقه الذين أخلصوا لأنفسهم واستثمروا وقتهم لتأطير الحراك والحفاظ على طابعه السلمي ما زالوا قابعين في السجن إلى اليوم، بعقوبات وصلت إلى عشرين سنة سجناً، لم تُخمد نارها في جوف عائلاتهم إلى الساعة.
إنّ المتأمل في هذه الأحداث، يحسّ كما لو أنّ كلّ هذا قد شُوهد من قبل. فقبل أربعة وستين عاماً، عندما انتفض الريفيون ضد التهميش والتفقير ناضلوا لأجل المطالب نفسها تقريباً، قوبلت هي الأخرى باغتيالات واعتقالات وتعذيب على يد ولي العهد آنذاك، الحسن الثاني. السيناريو نفسه أعيد في انتفاضة 1984 للمطالبة بتجويد الوضعية الاقتصادية والاجتماعية مرّة أخرى، حيث كان الحسن الثاني واضحاً في خطاب 22 يناير/ كانون الثاني، معترفاً بتدخله الدموي خلال أحداث 1958: "سكان الشمال يعرفون ولي العهد، ومن الأحسن أن لا يعرفوا الحسن الثاني في هذا الباب، عليهم أنّ يعرفوا الحسن الثاني الذي ألفوه، أما أنا فأعرف أنهم لا يعرفونني بكيفية عامة"، ناعتاً مواطنيه الريفيين بالأوباش: "[...] الأوباش: الناظور، الحسيمة، تطوان والقصر الكبير. الأوباش العاطلين الذين يعيشون بالتهريب والسرقة. [...] وها أنا أقول لكم إن هؤلاء الأوباش، الآن، هم في السجن".
لا الاستبداد أبدي ولا نحن محكومون به، ولا الظلم باق مهما كان متجذراً
ما الذي تغيّر بعد ست سنوات على حراك الريف؟ لا شيء.
لم يحاسب قتلة محسن فكري إلى اليوم، وقتل بعده آخرون بعبثية على يد رجال الأمن، آخرهم الشاب ياسين الشبلي في مدينة بن جرير. ما زال مشاركون في الحراك وراء القضبان بأحكام جائرة لم تعدّل ولا أُعيد النظر فيها، بل وصارت زوبعة الاعتقالات أكثر هيجاناً؛ ضحاياها كتّاب بسبب مجموعات قصصية أو روايات، صحافيون على خلفية مقالات أو تحقيقات، مواطنون عاديون على إثر تدوينة أو رأي أو حتى احتجاج.
ليس من العدمية الإقرار بأنّ الوضع اليوم لا يبعث على التفاؤل، فقر، جفاف، تضخم، استفحال للفساد والطغيان، أزمة في الأخلاق والمبادئ والقيم... ما زال التاريخ يعيد نفسه في كلّ مرة، كأنّ هناك لعنة تلاحق المغاربة، أو أنها أرض ملعونة من الأساس، حُكم على أناسها بالشقاء الأبدي. لكن ما يريح العقل ويطمئن النفس أنّ لا وجود للأبدية في هذه الحياة، فهي الأخرى آيلة إلى الفناء والزوال، لا الاستبداد أبدي ولا نحن محكومون به، ولا الظلم باقٍ مهما كان متجذراً، فهناك موسى لكلّ فرعون طغى.