رمضان... شهر لا تنتهي ذكرياته
عبد الحفيظ العمري
إنه رمضان؛ شهر لا كالشهور الأخرى، شهر له خاصيته المميّزة به؛ بأكله وشربه ونومه ونهاره وليله.
لهذا الشهر عندي ذكريات كثيرة مختزنة منذ الطفولة وحتى الكهولة!
إنه رمضان؛ شهر سَهِرتُ فيه ذات ليلة في الثالث الثانوي أدْرسُ التفاضل والتكامل! نعم، التفاضل والتكامل؛ سهرة بدأت بعد صلاة التراويح وطالت حتى السحور! وكأني سأفْصلُ في الخلاف بين نيوتن ولبينتز حول من منهما له الأحقية باختراع التفاضل والتكامل، والحقيقة بعيدة عن ذلك؛ كلّ ما هناك أني كنت أريد أن أعرف ما هو التفاضل وما أخوه التكامل!
وقبيل انبلاج الفجر في تلك الليلة تركتُ الرجلين في خلافهما التاريخي وذهبتُ للسحور، وحسبي أني عرفتُ (أو هكذا ظننت ساعتها) ما التفاضل وما التكامل؟!
إنه رمضان؛ شهر بعبق صوت الشيخ محمد متولي الشعراوي وخواطره القرآنية التي كان لها صداها، ولا يزال، لمستمعيها.
ظلّ هذه البرنامج في ذاكرتي بكلّ تفاصيله حتى أنّ نغمة "التَتْر" لا تزال ترن في أذني إلى اليوم، بل ولا يزال في ذاكرتي أنّ اسم مخرج البرنامج هو عبد النعيم شمروخ!
يفسّرُ الشيخ الشعراوي آيات الكتاب المبين بلهجته المصرية العامية في تبسيط جميل لا يخلّ بالمحتوى، وما أزال أذكر تفسيره لآية من سورة البروج وهو يضرب مثلا لقولة تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} البروج: 8.
قال الشيخ: "المفترض بعد (إلّا) تجي حاجة "وحشة"، لكن جاءت حاجة كويسة، زي ما نقول عندنا: ما لقوش في الورد عيب قالوا أحمر الخدين! هو أحمر الخدين عيب!".
إنه رمضان شهر القرآن؛ ذلك الكتاب المبين الذي أقرأه على مهل وتؤدة، ويأتي اليوم العاشر ليسألني والدي، رحمه الله، ذلك السؤال المعهود: كم قد ختمتْ خِتَمْ (أي كم مرّة قرأت المصحف؟ نسميه الخِتْمَة؛ مأخوذ من عمليه خَتْمِه وهي إكمال قراءته).
إنه رمضان؛ أيام الدراسة الجامعية في العراق، حيث يجب أن تأخذ تاكسي إلى شارع السعدون في بغداد لتلحق فطوراً أسرياً قَلَّ أن تجد مثله في سنوات الغربة الطويلة!
لا يدري أني، بالعافية، لا أزال في الجزء العاشر، ضائعاً بين آيات التوبة والأنفال، باحثاً عن معنى هذه الكلمة أو تلك، في حين حضرته داخل على الختْمَة الثانية!
إنه رمضان؛ شهر التراويح والركعات والحرص على سماع الشيخ السديس وهو يتلو القرآن الكريم في الحرم المكي بعد ظهور نعمة السماوات المفتوحة، وبالذات ليلة السابع والعشرين مع دعاء الختم. ولا أخفي تأثري وهو يدعو "اللهم احفظ الحُجّاج والمعتمرين في بحرك وبرك وجوك"!
إنه رمضان؛ شهر المهلبية أو المحلبية (على اختلاف النطق) وهذا طبيعي في لغة تتبادل الحروف مواقعها وأنواعها في شبه فلك دوار، أليس إخواننا في مصر يسمّون الكعك (كحك)؟ وماذا عن (الملعقة) و(المعلقة)؟ ولا أذكر الآن ماذا سمّى عالم النحو ابن جنّي هذه الخاصية في العربية!
إنه رمضان؛ شهر المسلسلات منذ "محمد رسول الله" حتى "رجل من طراز هذا الزمان"، مروراً بـ"ليالي الحلمية" و"المال والبنون" و"هارون الرشيد" و"بوابة الحلواني" و"الإمام الغزالي" و"باب الحارة" وغيرها مما كان يُعرض في ذاك الزمان البعيد.
ما أزال أحرص على الموسيقى التصويرية لتك المسلسلات، وتلك القصائد التي كان ينظمها عبد السلام أمين (مؤلف أغلب تلك المسلسلات الدينية) وهنا ما أذكره من تتر الختام لمسلسل هارون الرشيد:
أرجعي الأمسَ الخَليْ…ذكّرينا واسألي
أين (زريابُ) وأين الـ…شِعرُ وأين (الموصلي)؟
أين ما كان لنا …في الزمانِ الأوّلِ؟
آه.. البيت الأخير كأنه يتكلم بلسان حالنا اليوم!
إنه رمضان؛ شهر المسابقات منذ "المسابقة الكبرى" التي اشتركت فيها مرّة ولم أفز (كالمعتاد!)، حتى "منْ يربح المليون" مع جورج قرداحي على قناة mbc.
لا أدري لماذا المسابقات يحمى وطيسُها في رمضان؟ لكن أفضل مسابقة كنت أستمتع بها هي "بنك المعلومات" التي كان يقدّمها الدكتور عمر الخطيب، مسابقة تحسّ أنها مسابقة حقيقية، بعيداً عن ترهات الأخرى!
إنه رمضان؛ شهر الألعاب التي تبدأ من "الكتشينة" (تسمّى عندنا البَطّةْ) بكل أنواعها (الباصرة/ الزيدو أو الصرف/ التُرَبْ …إلخ) وحتى لعبة (المنوبولي) التي لا تنتهي! (أذكر مرة بدأت اللعبة التاسعة ليلاً ولم تنتهِ إلا السادسة فجراً)، مروراً بـ"الكَيْرَم" و"الجيم" و"البلياردو" و"الشطرنج"!
أجملها بالتأكيد هي "الباصرة" خصوصاً مع والدي، رحمه الله، قبيل أذان المغرب، وهو يتهمني بالمغالطة!
ولم تكن مغالطة؛ كل ما في الأمر أني كنت أحسب عدد الأوراق النازلة من كلّ نوع وأطبّق قوانين الاحتمالات!
إنه رمضان؛ أيام الدراسة الجامعية في العراق، حيث يجب أن تأخذ تاكسي إلى شارع (السعدون) في بغداد لتلحق فطوراً أسرياً قَلَّ أن تجد مثله في سنوات الغربة الطويلة!
وإذا تأخرت، أو لم تأتِ، فما لك إلا فطور مطعم "زوزاك" البارد جوار المسرح الوطني، وبدون مسرحية!
إنه رمضان..
إنه رمضان الذي لا تنتهي ذكرياته، وكفى!