غزة وضرورة ولادة عالم متعدّد الأقطاب
قبل أشهر كتبت مقالاً تحت عنوان: "التطبيع العربي والإيراني وحصار إسرائيل"، نشرته صحيفة "العربي الجديد"، عرضت فيه مسألة تزامن تطبيع العلاقات السعودية الإيرانية برعاية صينية، مع الترويج لفكرة أنّ هذا التطبيع العربي الإيراني سيعزل إسرائيل ويحاصرها ويقضّ مضجعها، وأنّ الإسرائيليين سيصلون أطراف الليل بآناء النهار خوفاً من أن يقع الهجوم عليهم، وقد ذهبت في مقالي ذاك إلى تفنيد هذا الادّعاء، وبيان أنه لا يقوم على أسس صحيحة.
ثم مرّت الأيام وتعاقب الليل والنهار، وجاءت عملية "طوفان الأقصى"، وجاء معها تدمير غزة وقصفها وتشريد أهلها وقتل أطفالها، ولم يتحرّك أحد من أهل الاتفاقيات نحو فلسطين، واختفت تلك الأبواق التي طبّلت لتطبيع العلاقات الإيرانية العربية، بل وغابت حتى الصين، ولم تحضر إلا حاملات الطائرات الأميركية وحلف شمال الأطلسي، وكان ما كان.
إنّ الشرق الأوسط أكبر من الصين، أو على الأقل هو أكبر منها حتى اليوم، وما يجري الآن يؤكد ذلك، بل إنّ فكرة أن تتزعم الصين قطباً، هي من الأساس فكرة خاطئة.
وإذا كان الأمر على هذا النحو مع الصين، فكيف يكون الأمر مع روسيا؟ روسيا قد تُعذر حالياً لما تُواجهه وتخوضه من حرب، وإلا فهي أكثر فاعلية، سواء دبلوماسياً، أو في القدرة على إدارة الصراعات الإقليمية، أو حتى في تحدّيها للغرب، وذلك لما راكمته في هذه الأمور عبر سنوات طويلة. فروسيا تعيش علي وقع إرث القيصرية وإرث الاتحاد السوفييتي، ولهذا، فإن تمكّنت، هي والصين، من إنشاء قطب آخر، فإنّ روسيا هي التي ستقوده.
فكرة أن تتزعم الصين قطباً، هي من الأساس فكرة خاطئة
وما يؤكد هذا هو ما حدث من تحليق لطائرات حربية روسية تحمل صواريخ كينجال، لمراقبة البحر المتوسط والبحر الأسود. وما يزيد من صحة هذا الرأي، ما جاء في مقال لنائب مجلس الأمن القومي الروسي، ديميتري ميدفيديف، من أنّ ما يحدث الآن في الشرق الأوسط هو قريب مما حدث من أحداث أدّت إلى قيام حرب عالمية، ملمّحاً إلى أنها ستكون نووية هذه المرّة. وهذان الموقفان، على ما يظهر، كان لهما وقع في الغرب، وذلك لما ينطويان عليه من رسائل وإشارات، وهذا الوقع يتجلّى في دعوة الرؤساء، منهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، إلى فتح المجال أمام المساعدات القادمة إلى غزة.
إنّ ما يحدث الآن في غزة، لا يزيد أصحاب النهى إلا يقيناً بضرورة قيام عالم متعدّد الأقطاب أو ثنائي القطب، بعيداً عن هيمنة القطب الواحد، الذي أثبت فشله أكثر من مرّة، وتعدّدت صور تحيّزه وتلاعبه، وتسييره للأمور وفق ما يخدم مصلحته.