صدر قديماً: "رمضان في الأدب" لعلي الجندي.. تأمّلات في شهر عربي
لم يُحسم الجدل بعدُ حول تسمية الشهور القمَرية أو على تغيّر مواعيدها وتقلّبها على جميع فصول السنة، مع تعدّد الروايات حول تحديد مسمّياتها وفي أي عصر وُضعت، وكذلك تأخيرها كلّ عام بمقدار عشرة أيام، إذ يعتقد البعض أنها كانت ثابتة وتُضاف إليها سنوياً عدّة أيام اصطلح عليها العرب بـ"النسيء" لتعادل عدد أيام السنة الميلادية.
يقف علي الجندي عند الاختلاف حول مصدر اشتقاق رمضان لدى اللغويين القدماء، مُشيراً إلى أن اختيار أسماء الأشهر العربية ارتبط بالأزمنة التي تأتي فيها، بحسب قول ابن دريد، فوافق رمضان أيام رمض الحرّ وشدّته، فسُمّي به، ثمّ كثر استعماله حتى وإن لم يأتِ الشهر في طقس غير ذي حرّ شديد.
يدوّن أستاذ الأدب الجاهلي والباحث المصري (1928 - 2009) ذلك ضمن تأمّلاته في كتاب "رمضان في الأدب"، الذي تضمّن جملة من المحاضرات التي ألقاها في "دار العلوم" القاهرية، وصدر عام 1959 عن "مطبعة جامعة القاهرة".
تأويلات مختلفة لتسمية رمضان عند العرب قبل الإسلام
ويبحث الجندي في تاريخ الشهر كما توضّحه جملة من المصادر التراثية، ومنها القول الشائع بأن كِلاب بنَ مرّة هو أوّل مَن أطلق اسم رمضان على الشهر التي كان يسمّيه العرب "ناتقاً"، في إشارة إلى كثرة الأموال التي كانت تجنيها فيه، أو أن الاسم يحيل إلى أنه كان يزعجهم بشدّته عليهم في قول آخر، إلّا أن المسعودي يرى في "مروج الذهب" أن ناتقاً هو شهر محرّم.
ويلفت الجندي إلى ملاحظة أوردها الفلكيّون المسلمون حول أن التسمية الجديدة للشهور وقعت في الخريف، يما يعني أنّ رمضان ربما لم يجر اشتقاقه من شدّة الحرّ، وهو ما جعل التأويلات تتعدّد حول سبب تسميته، بين مَن رأى أنه مأخوذ من رمض الصائم، أي حرّ جوفه من شدّة العطش، أو أنه يرمض الذنوب فيحرقها بالأعمال الصالحة، أو أنه يشير الرمض بمعنى ترقيق السيوف استعداداً لمعارك شوّال التي كانت تسبق الأشهر الحرم عند العرب قبل الإسلام. وبالمحصّلة، فقد حمل "رمضان" نحو ثمانية معان عند العرب.
ثم ينتقل المؤلّف إلى حضور رمضان في الأدب العربي من خُطَب ورسائل ومواعظ وحِكَم وقصائد معظمها ركّز على فضائله، ومنها قول أبو منصور الخزرجي في القرن الرابع الهجري: "الصَّوْم ضيفٌ ثوى فدارِه/ قد يُؤجر العَبْد وَهُوَ كَارِه/ واحمل على النَّفس فِي قراه/ فِي ليله مِنْك أَو نَهَارِه/ فالضيف مَاضٍ غَداً ومثنٍ/ عَلَيْك أَن حِطتَ من ذمارِه".
وبحسب الكتاب، فإنّ التهاني بحلول شهر الصوم أصبحت تقليداً ثابتاً في العهد العباسي على الأغلب، حيث يستشهد الجندي بمجموعة من الأبيات التي تبادلها الخلفاء والأمراء والولاة لعدد من الشعراء، مثل عبد الصمد بن بابك وابن الرومي والمطراني والشريف الرضي، حيث يرسل الأخير إلى الخليفة أبي بكر الطائع (932 - 1003 م) قصيدةً يأتي في مفتتحها: "تهَنَّ قُدومَ صَوْمِكَ يا إِماماً/ يَصُومُ مَدَى الزَّمانِ عَنِ الأَثامِ/ إذا مَا المَرْءُ صَامَ عَنِ الدَّنَايَا/ فَكُلّ شُهُورِهِ شَهْرُ الصِّيَامِ".
نشأ شعر شعبي مرتبط بالسحور نهاية القرن الثاني عشر للميلاد
ويبيّن المؤلّف أن المجالس كانت تُعقد بحضور الفقهاء وعلماء الكلام المتناظرين في ليالي رمضان، سواء في المشرق العربي أو الأندلس، وتُعدّ الولائم التي تزدان بالأطعمة والأشربة والحلويات، وبدأت كذلك تظهر انزياحات لمعاني رمضان في أغراضه المتنوّعة للدلالة على طول النهار والصبر وشدّة الجوع وغيرها.
ويتحدّث أيضاً عن نشأة شِعر "القوما" وهو شِعر شعبيّ له وزنان مختلفان، ابتكره رجلٌ بغداديّ، يدعى أبو نقطة، للخليفة أبي العبّاس الناصر لدين الله (1158 - 1225) بغرض إيقاظ الناس وقت السحور، وغلب عليه هذه الاسم من استهلاله بلازمة "قوما لنسحر قَوماً"، وقد أُعجب الخليفة وطرب لاستماعه، وكافأ أبا نقطة عليه بإجراء وظيفة سنوية.
لا يغفل الجندي النوادر المرتبطة برمضان، سواء تلك المتعلّقة بالأبيات المتواترة عن الأخطل الذي يجاهر فيها بإفطاره، كونه ينتمي لقبيلة عربية مسيحية، وكانت تُتداول على سبيل الفكاهة وإبداء الظُرف في أجواء الحربة، كما يعدّد أبيات شعراء مسلمين آخرين لم يصوموه يوماً، ومنهم ديك الجن الحمصي، وآخرون صاموا إكراهاً كالأقيشر الأسدي الذي أُجبر أيضاً على الامتناع عن الخمر طيلة الشهر، مقابل أبيات أُخرى أصحابها ينتمون إلى المسيحية والصابئية والمجوسية وكانوا يصومون احتراماً للمسلمين.