رحل مظفر النوّاب الذي طالما تردّد خبرُ رحيله في الأعوام الأخيرة التي اختفى فيها عن الجمهور، وعن الشِّعر الذي أحدث فيه دويّاً حقيقيّاً في حقبةٍ تردّدت أشعارهُ الغاضبة الصارخة، والشاتمة أحياناً.
كان مظفّر النوّاب، حينذاك، صيحةَ مرحلةٍ اختلط فيها الشعور بالعار الوطني مع الحماس والتبشير بمرحلة جديدة ليست الكلمة وحدها من أسلحتها؛ بل السلاح الفعلي والمقاومة المتفجرة والثورة التي على الأبواب.
كان النوّاب، يومها، بحجم ذلك العنف الكامن وتلك البشارة الواعدة. لا يمكننا أن نفصل لذلك بين مظفّر الشخص ومظفّر الداعية الذي كانت أمسياته المنتشرة في كلّ مكان جزءاً من مستقبل مشرف من بعيد، جزءاً من حدث يتمخّض ويكاد ينفجر وسط الصراع، ووسط الغضب الجماعي.
لم يكُن ممكناً قراءة مظفّر كنصٍّ وفصله عن الأحداث
لم يكن في المستطاع أن نفرز ظاهرة مظفّر النوّاب من هذا الحدث الذي يتململ في الأفق. لم يكُن شعره، آنذاك، ماثلاً للأدب أو الشعر بقدر ما كان جزءاً من لحم الواقع ومن دمه، جزءاً من مستقبل موعود، من حدثٍ هو على الطّريق، من معركة. لم يكُن في المستطاع تناوُل الشعر "النوّابي" وحده، تناوُله فقط كشعر، أو قراءته بمعايير أدبية، أو عرضه هكذا على النقد الأدبي، على شعريةٍ ما بالمفهوم اليوناني للكلمة. لم يكُن ممكناً حتّى قراءة مظفّر كنصّ وفصله هكذا عن الأحداث. بل كان لا بدّ من تناوُله هو نفسه كحدث. كان أغنيةَ المعركة. لمرّة لم يكُن الأغنية فحسب، بل كان في صميم المعركة. كان هكذا، على نحو ما، المعركة نفسها.
كان هناك، بالطبع، من أنِفوا من قراءة مظفّر على النحو هذا. هؤلاء كانوا قلّة وقضيّتُهم، بالدرجة الأولى، كما ادّعوا، كانت الشعر. تصدّوا للدفاع عن الشعر الذي خافوا عليه من أن يغرق في الواقع وأن تلتهمه الأحداث. خافوا عليه من أن ينزل عن مستواه وأن يتحوّل هكذا إلى حكي شوارعي، إلى مباشَرة فظّة وإلى مجرّد سرد ومجرّد تزيين للواقع وقولٍ آخر له.
كان على الشعر هكذا أن يكون له مستواه وأن يحفظ درجته، أن يكون لنفسه فحسب. أن يكون همُّه فيها وألّا يسمح لحكي آخر أن يتغلغل فيه ويحرفه عن ذاته. كان على الشعر، بالنسبة إليهم، أن يبقى في نفيه، أن تكون قضيّته هناك. لم يكن ذلك يعني ألّا تكون له دعوى أو قضية. إذا كنّا، ذلك الوقت، نتكلّم عن الحداثة، فإنّ ذلك لا يحيلها إلى سياسة أو إلى دعوة أو إلى قضيّة اجتماعية. كان لها اشتراكُها مع الشعر في سماء واحدة. كان لها تساميها بحيث يمكن لها أن تماهي الشعر، وأن تكون هكذا، مفردة أُخرى له، مصطلحاً ثانياً واسماً آخر. كان الشعر حين يسمّي الحداثة يسمّي نفسه. كان الشعر هو أيضاً الرفض والثورة والتغيير. يمكننا القول إنّ الشعر يتحوّل هكذا إلى بديل كامل شامل. الشعر يتحوّل إلى نظريّة بذاتها، وإلى مستوى أعلى وإلى عالَم. لم يكن هؤلاء الذين أنِفوا من شعر مظفّر إلّا من يُريدون أن تُقال الأشياء ذاتُها، ربما، بطريقة أُخرى وبمستوى آخر.
أراد الذين أنِفوا من شعره أن تُقال الأشياء بطريقة أُخرى
كان لي حظٌّ أن أحضر مظفّر؛ وحين أقول أحضر أعنيها تماماً، الإصغاء إليه مشهدٌ كامل. ليس الشعر وحده هو الذي يلعب. معه يلعب الشخص بصوته وجسده. كان هناك ما يشبه العرض، اليدان تجسّدان وتؤدّيان والصوت يقارب أن يغنّي. أذكره وهو يؤدّي كلمة "تمطر" بصوته ويديه، يلعبُ بالكلمة إلى حدّ أن نشعر بها تمطر في فضاء الصالة.
كان، وهو الشاعر الشعبي، يشبه أن يكون من الشعراء المغنين، نوع من التروبادور. لعلّ هذا في أصل شعره. كان يومها يُلقي، وأقول يتغنّى بأولى قصائد "وتريّات ليليّة"؛ هذا العنوان الذي يجمع بين الشعر والغناء. لم يكن الديوانُ كلّه غضباً وعنفاً وسباباً؛ أو ما يُشبه السباب، كما شاع شعر مظفّر. كان في الديوان ارتعاشات شهوانية مقرونة بهمس وبنبض يشبه الزفير والخفقان. هذا الجانب في شعر مظفّر الذي، على فرادته، لم يدرج وكأنه لم يُقرأ. كان في "وتريّات ليليّة" الكثير مثله. الكثير الذي يكاد أن يكون بوحاً وارتجاجاً وارتعاشاً جسدياً.
في "وتريّات ليليّة" أيضاً كلام مكشوف مغتاظ ينفث تأنيبات وغضباً وحتّى شتائم. بالطبع، يأخذ كثيرون على مظفّر شتيمة من مثل "أولاد القحبة"، لكن سباباً كهذا يُفهم إذا ورد في كلام شعبي. إنّه ما يقذفه الفم ساعة غضب، ما ينبس به المواطن البسيط عن حنقه. لا أستحبُّ أن يتضمّن الشعر كلاماً كهذا، لكنّي أفهم أن يتضمّنه. أفهم أن يرد في كلام، بل لا أجد ما يدعو إلى تحريمه، خاصّةً إذا كان هذا التحريم بحجّة أنّه إساءة إلى الآداب وفجور شائن. لا أجد محلّاً لهذا النوع من الأخلاق في عمل أدبي.
مع ذلك، فإنّ هذا الشعر، بخلاف السائد، بعد أن حصد دويّاً وانجذابات في كلّ مكان، ما لبث أن توارى، في نوع من القصاص على شعبيته هذه. وجد من يردّ ذلك إلى خطابيته السياسية. إلى استغراقه السياسي، في نوع من النقد الذي يُنزّه الشعر عن الدعاوى السياسية، لكنّ نقداً كهذا، وإن عرف ودرج أحياناً، بقي حبراً على ورق ولم يؤثّر في قراءة الشعر أو رواجه وصيت صاحبه. إذ إنّنا لا نعرف شاعراً اشتهر بفضل شعره فحسب، ومن دون أن يردف ذلك دعوة ما سياسية، أو تتّصل، من بعيد أو قريب، بالسياسة، كتلك الدعوة إلى التحديث أو الاعتراض كما أسلفنا.
قد يكون مظفّر، الذي كان شعرهُ تظاهرة سياسية، هو الوحيد الذي عوقب على ذلك. ربّما لأنّ معركته هي التي انطفأت أو فقدت زخمها.
* شاعر وروائي من لبنان