مثل شريط سينمائي تمرّ الآن مشاهد من حياة سلمى الخضراء الجيوسي في حياتي. قد يبدو الإنسان محظوظاً باقترابه من شخصية ثقافية بمستواها وإنسانة كبيرة بجميع المقاييس، وعقد صداقة عميقة معها. ولكنّ ثمنَ هذا غصّةُ الفراق بمجرّد التفكير أنك لن تستطيع تبادل كلمة أو نظرة مع إنسان له هذه المكانة في حياتك إلا في الأحلام ربما. هناك أيضاً ندم التسويف وما ندعوه "مشاغل الحياة"، الحياة التي أيضاً تفرّق وتبدو شريكة للموت في التفريق بل لعلها متفوّقة عليه. هناك الخسارات الكبرى التي سندركها في ما بعد، هناك شتات الحياة الفلسطينية التي نجتمع على حوافها الحادة المسنّنة، هناك بلادنا المسروقة وشعبها الممزّق والمتشبِّث رغم تمزّقاته.
إنها الآن واحدة من النجوم الحنونة التي تومئ إلينا وترعانا من سماء القدس
كنتُ في الجزائر حين التقيت بها في المرّة الأولى عام 2007. كانت قد وصلت للتوّ وكنت بين مستقبليها الجزائريين، اقتربتْ مني وحكت شيئاً عن القدس، اقتربتْ خطوة أُخرى ثم رفعت يدها ووضعتها على خدي. قالت بالفصحى: "يا ولدي حنّ قلبي عليك". بدت بعكس صورتها الصارمة في مخيلتي. ربما بتأثير مقابلة معها على شاشة تلفزيون حكومي عربي. كانت مقدّمة البرنامج تلاطفها وتكيل لها التقدير، لكنها في المقابل تردّ بحدّةٍ رافضةً تماماً لعبة المجاملات المعتادة في اللقاءات التلفزيونية. كانت المقدّمة تقول لها عبارات مثل "ما قدمتِهِ للثقافة العربية..." فتُقاطعها الدكتورة سلمى بكلام مثل: "وهل كان عليّ انتظار حكوماتك العربية لتقوم بهذا؟"... بدت ردودها على المجاملات أقرب إلى تقريع واقع مقصِّر من قِبل مثقفة جدّية ليس عندها وقت لاستقبال الإطراء والمجاملات.
في الجزائر بدت إنسانة مختلفة رقيقة وشفّافة بشكل لا يوصف. وفي ما تلاها من سنوات تلقيت منها رعاية نادرة، ومحبّة أُمومية وصداقة ندّية أيضاً. فالثمانون عاماً لم تكن لتجعلها أقل في الإقبال على الحياة وفي نضارة الحس من ابن العشرين. شيخوخة الجسد لم تترافق عندها مع شيخوخة العقل والحواس والذوق. منحت شعبها وأُمّتها والعالم كل ما عندها من معرفة وكرم وجمال وحكمة. أُحبّ أن أفكّر أنها قد عادت إلى فلسطين لتستريح، هي التي لم تعرف الراحة؛ وأنها الآن واحدة من النجوم الحنونة التي تومئ إلينا وترعانا من سماء القدس.