هل يبدو أن الحرب الأهلية هي الإرث الأبرز لـ الربيع العربي، أم أنّ هذا الربيع الذي أوهمنا بأننا صرنا هكذا في التاريخ، لم يلبث أن انقلب على نفسه، وعاد أحياناً الى تكريس وترسيخ ما سبقه، فكان أحياناً عودة إلى استبداد عسكري كامل، في حين أن العسكرة التي بنى عليها كانت أوجدت لها هوامش مدنية وما يشبه أن يكون أعرافاً سياسية، تمتص الحراك الداخلي وتحيله الى مؤسسات، السلطة شريكة فيها، وهي، على كل حال، تنتهي عندها؟
في مواضع أُخرى غرق الربيع في شقاق أهلي، أسفر شيئاً فشيئاً عن الوحشية التي تنتقل إليها النزاعات الأهلية، التي تبني غالباً على إرث من العقد والعنف البري. هكذا كان الأمر في مصر وليبيا وسورية واليمن، أما التجلّي الأخير لهذا الربيع في لبنان فيسفر، شيئاً فشيئاً، عن بوادر حرب أهلية، في ما يخمد الحراك الذي أطلقه ويغدو أقل وأضعف من أن يحتمل، شأنه شأن كل حركات الربيع العربي، ما يرزح عليه، بتزايد كبير، من أثقال الوباء والانهيار الاقتصادي والانسداد السياسي. إذ ذاك يمكن في غير مكانٍ الانقلابُ على الماضي القريب الذي كان الربيع العربي يحمل بذوره في الأساس. لكن ما يحدث الآن هو تراجع، وتراجع كبير، يحدث على نحو عشوائي بدون أن يبني على مراجعة فعلية، وبدون أن يبني على رؤية جديدة. إن هو إلّا الانسداد والتخلّي والقهقرة والخوف من المستقبل.
لم يكن الربيع العربي بالطبع يبني على رؤى مسبقة وقواعد متماثلة. مع ذلك بدا، وكأنه في انتقاله من بلد الى بلد، يبني على عوامل ودوافع متقاربة، بدا وكأن ما يعتمل في شتى البلدان هو الإرث نفسه، وما يندفع إلى التبلور والخروج في أكثر هذه البلدان، هو الغايات المتشابهة والمتقاربة. لقد كانت هذه الحراكات تنفجر في وجه الاستبداد الذي بدا، في حقبات كثيرة، مُرضياً وضرورياً وكافياً. الاستبداد العسكري غالباً كان في البلدان التي رزح عليها، وهي تقريباً بلدان الربيع العربي نفسها، يظهر في أغلب الأمر بديلاً مقبولاً لسلطات الإقطاع والزعامات القبلية والطوائفية التي سبقته. هذه السلطات هي التي تشكلت كمجالس فيدرالية أو هيمنات قبلية وطوائفية لم تكن قادرة على إنشاء دول، أو على إيجاد نظام اجتماعي. كانت في الواقع سلطات ما بعد استعمارية تأسّست في تكوينها على يد المستعمرين الأوائل، الذين تركوا وراءهم سلطات تخدم احتياجاتهم، وتخدم الانقسامات الاجتماعية التي أمعنوا في استغلالها وبنوا عليها.
ما يحدث الآن هو تراجع كبير يحدث على نحو عشوائي
كانت هذه السلطات كرتونية وعشوائية وضعيفة وانقلبت عليها حفنات من العسكر التي لم تكن غريبة عنها، كما لم تكن مختلفة ولا متفرّدة، كانت مثلها تقريباً تخرج من انقسامات المجتمع ومن فرقه وطوائفه وعشائره. لكن هؤلاء، العسكر، حملوا معهم إلى السلطة وعوداً بدولة حديثة في تركيبها ونظامها، وعوداً بانتصارات قومية وبجيوش قوية وبتحديث اقتصادي. لا ننسى أن هذه الانقلابات وقعت إثر نكبة فلسطين، وكانت، في ظاهرها، ردوداً عليها. كان سقوط فلسطين يجعل من القوة حلماً جامعاً، ولا شك أن العسكر مثّلوا حينها وعداً بهذه القوة.
ليس مهماً أن نروي ما حدث بعد ذلك. كانت السلطات، التي أقامها العسكر، تبني على الانقسامات التي بنت عليها السلطات السابقة. ثم إنَّ وعد الدولة الحديثة القوية بدا هراءً وتحطّم عند أول مجابهة. كما أن السلطات العسكرية بنت على الانقسامات نفسها، وتحوّلت، في أحيان كثيرة، إلى غلبة عشائرية أو طوائفية. بالطبع كان العار نفسه يتجدد، والاستبداد يحل محل المجالس القبلية والطوائفية التي سبقت. لذا طرح الربيع العربي أول الأمر غاية جديدة على المجتمعات العربية، هي الديمقراطية. تحولت الديمقراطية هكذا مطلبا شعبياً، وبدا أن هذا الشعار يستقطب قوى اجتماعية، الشباب والطلاب والمهمّشون أركانُه.
تجلّت الديمقراطية، للمرّة الأولى في تاريخنا الحديث، مطلباً جماهيرياً. لكن مطلباً كهذا يستنفر ضدّه كل القوى التي تُشكّل المجتمع السياسي والعسكري، كل الانقسامات التي توحدت، في هذا الحين، ضده. لقد طُرحت الديمقراطية كمطلب، لكن القوى التي قامت بعبئه كانت جميعها مهمّشة وضعيفة. لذلك، وبسببه، كانت الثورة ضعيفةً وتُجابِه القوى الفعلية التي اتّحدت ضدها. هذا ما دعا هذه المرّة الى انقلابات على الانقلاب نفسه، وإلى استبداد كامل محل الاستبداد المتنوع الذي سبق، ثم كان أن ثارت كلّ الانقسامات في وجه الثورة. لكن هذه المرّة استعارت هذه الانقسامات المطلب الديمقراطي وعملت على امتصاصه وتحويله لها. انتصر العنف الطوائفي العشائري على الهوامش الثورية. كانت هذه نهاية الربيع العربي، بل الانقلاب عليه وتحويله إلى نقيضه.
* شاعر وروائي من لبنان