الخبز هو السلعة الغذائية الأهم من الناحية الإستراتيجية، قديما وحديثا، والأخطر من الناحية الاجتماعية والسياسية والأمنية في كل دول العالم.
وكان الخبز، وما يزال، سببا رئيسا في إشعال الثورات الاجتماعية منذ سجل التاريخ للثورات الشعبية مع بداية ظهور مفهوم الدولة، وشرارة الربيع العربي في نهاية العقد الأول من القرن الحالي والذي لم تخمد جذوته بعد.
ولأنه المادة الأساسية في صناعة الخبز، اكتسب القمح أهمية الخبز، وأصبح المحصول الزراعي الأول من حيث المساحة التي يشغلها من الأراضي الزراعية حول العالم، والسلعة الأكثر أهمية في محددات الأمن الغذائي على مستوى العالم، ومخزونه الإستراتيجي يمثل صمام وضمان الاستقرار الاجتماعي والسياسي والأمن القومي للدولة.
مؤخراً، أعادت الحرب الروسية على أوكرانيا لفت أنظار الحكومات والشعوب من جديد للقمح، كمحصول زراعي وكسلعة إستراتيجية، بعد أن خلقت أزمة خبز في دول عديدة، ورفعت سعره إلى ضعف ما كانت عليه قبل الحرب تقريبا، وعرقلت تصدير أكثر من ربع الكمية المتاحة للتجارة الدولية من الدولتين.
وكشفت الأزمة أيضاً عن أن الدول العربية هي أكثر دول العالم تأثرا بتداعيات الحرب، لأن 60 بالمائة من احتياجاتها من القمح وغيره من السلع الغذائية تأتي من الدولتين المتحاربتين.
ذلك أن الحكومات العربية لم تأخذ الدرس من أزمات الخبز التي وقعت خلال العقود الثلاثة الأخيرة على الأقل، ودور إحداها في إشعال الربيع العربي.
فلم تتغير نسبة الاكتفاء الذاتي من القمح طوال هذه المدة، وظلت في حدود 42 بالمائة من احتياجات السكان في المنطقة ودون تغير جوهري أو تدخل حكومي فعال لتحسينها.
ورغم مرور عشر سنوات على الثورات الشعبية التي أشعلها الخبز، ظل إنتاج القمح في الدول العربية متخلفا عن بقية دول العالم.
مساحة المحصول
يزرع العالم 222 مليون هكتار من الأراضي الزراعية بمحصول القمح سنويا، وينتج 779 مليون طن، يستهلك 75 بالمائة منه محلياً داخل الدول المنتجة، ويتبقى 200 مليون طن للتجارة الدولية.
وما تزرعه الدول العربية مجتمعة من المحصول الإستراتيجي هو 9.3 ملايين هكتار، وتنتج 25.9 مليون طن، وفق ما ورد في آخر تقرير عن أوضاع الأمن الغذائي العربي الصادر سنة 2020 عن المنظمة العربية للتنمية الزراعية.
ونتيجة عجز الإنتاج، قامت الدول العربية باستيراد قرابة 43 مليون طن في سنة 2021. ما يعني أن الدول العربية التي تشكل 5.5 بالمائة من سكان العالم، قامت باستيراد 20 بالمائة من المتاح للتجارة الدولية، وأنتجت 3.3 بالمائة فقط من الإنتاج العالمي من القمح.
أضف إلى ذلك أنّ المخزون الاحتياطي من السلعة الإستراتيجية في الدول العربية يقدر بالأسابيع مثل لبنان، أو الشهور، كما هو واقع في غالبية الدول العربية.
ولا يغطي شهور السنة كلها كما هو الحال في معظم دول العالم، لدرجة أنّ وزير التموين الحالي في مصر قال في بداية الحرب على أوكرانيا في برنامج تلفزيوني شهير إنّ مخزون القمح في مارس/ آذار سنة 2017 كان يكفي لمدة 18 يوماً فقط!
وترسم حكومات العالم الرشيدة سياستها الزراعية على أساس زيادة إنتاج محصول القمح بمعدل أعلى من معدل الزيادة السكانية، باستخدام الطرق الرأسية والأفقية، وذلك بهدف تحقيق فائض التصدير، أو المحافظة على معدل الاكتفاء الذاتي، أو السيطرة على حجم الفجوة الغذائية.
وفي الدول العربية، يزيد عدد السكان بمعدل 1.95 بالمائة، وبدلاً من زيادة مساحة المحصول إلى ثلاثة أو أربعة أضعاف الزيادة السكانية، لكن وللمفارقات المحزنة، انخفضت المساحة المنزرعة بالقمح بنسبة 8.5 بالمائة في 2020 عن المساحة المنزرعة في 2019.
وللمفارقة أيضاً، فإنّ الدول العربية، وهي المستورد الأكبر للقمح في العالم والمتضرر الأكبر من أزمات الخبز، تستثمر لزيادة مساحة وإنتاجية محاصيل أخرى أقل إستراتيجية من القمح، مثل الخضروات والفاكهة، على حساب مساحة القمح، عكس ما يتجه إليه العالم نحو الحبوب والقمح باعتبارها محاصيل إستراتيجية.
فزادت المساحة المنزرعة بالخضر والفاكهة بنسبة 20 بالمائة في 2020 عن المساحة المنزرعة في 2019.
وخير مثال على ذلك، أن روسيا أوقفت زراعة البطاطس في 2000، وفضلت استيرادها من مصر، وتتجه للاستثمار بكثافة في زراعة القمح. وكانت النتيجة أن روسيا أصبحت المصدر الأول للقمح في العالم بعد 15 سنة، وعلى النقيض منها بقيت مصر في موقع المستورد الأول للقمح في العالم.
معدل الإنتاجية
معدل إنتاجية القمح، أو الغلة كما يسميه المتخصصون، هو كمية إنتاج القمح في الهكتار الواحد. ويعزى تزايد إنتاج القمح في العالم إلى زيادة الإنتاجية بالمقام الأول، وليس إلى زيادة المساحة المنزرعة بالمحصول.
وتزيد الإنتاجية باستخدام البذور والتقاوي عالية الإنتاج، المقاومة للملوحة والأمراض النباتية، والتسميد الكيماوي بالمقررات المطلوبة، وبرامج إرشاد المزارعين إلى طرق الإنتاج الحديثة، واستخدام الميكنة المتطورة في الزراعة والحصاد.
ورغم أن المعدل العالمي لإنتاجية القمح وصل إلى 3.5 أطنان للهكتار، فما زال معدل إنتاجية القمح في الدول العربية يراوح عند 2.8 طن للهكتار. ما يعني أن معدل إنتاجية القمح في الدول العربية يقل بمقدار 20 بالمائة عن المعدل العالمي.
وقد تخطى العالم معدل إنتاجية 2.8 طن للهكتار قبل سنة 2000 بسنوات. ما يعني أنّ إنتاجية الوطن العربي من القمح متخلفة بمقدار ربع قرن على أقل تقدير عن المعدل العالمي.
كما أن معدل الإنتاجية في كثير من الدول العربية المنتجة للقمح، يقل عن 1.8 طن للهكتار، وهو المعدل الذي تخطاه العالم قبل سنة 1980، ما يعني أنّ هذه الدول متخلفة عن المعدل العالمي لغلة الهكتار بحوالي نصف قرن.
يعكس تخلف معدل إنتاجية القمح في الدول العربية مستوى التكنولوجيا البدائية المستخدمة في الزراعة، سواء ما يتعلق بالتقاوي عالية الإنتاج، أو معدل استخدام الأسمدة، أو أساليب الري الحديثة.
ولسوء الحظ، فإنّ النسبة الأكبر من المساحة المنزرعة بالقمح في الدول العربية هي زراعات مطرية أو بعلية وتعاني من شح وتذبذب هطول الأمطار، مع غياب الاستثمار الحكومي لتوفير أجهزة ووسائل الري الحديثة، ما يتسبب في تراجع كمية الإنتاج ومعدل الإنتاجية معاً.
بالنسبة للتقاوي عالية الإنتاج، يرجع 50 بالمائة في القفزة العالمية في إنتاجية القمح إلى استخدام التقاوي عالية الإنتاج، وهي تكنولوجيا غير معقدة ولا مكلفة. الدول العربية تعاني عجزاً في إنتاج تقاوي القمح عالية الإنتاج قدره 81 بالمائة.
الاستثمار الحكومي في مجال تكنولوجيا البذور يمكن أن يزيد إنتاجية القمح في الدول العربية إلى الضعف، ما يقلل الاستيراد ويعالج فجوة القمح المزمنة والمحزنة. هذه المعلومة تتردد في اجتماعات المنظمة العربية للتنمية الزراعية منذ عقود، وكأنها تقول للحكومات العربية اجتنبوها ولا تقربوها.
أما الأسمدة الزراعية، فهي وإن كانت تشكل حوالي 15 بالمائة من تكلفة إنتاج القمح، ولكن استخدامها بالمعدلات الموصى بها للمحصول يرفع الإنتاجية بمعدل 35 بالمائة. المحزن أن الدول العربية تواجه تخلفا في الإنتاج الزراعي والقمح بسبب نقص الأسمدة المتاحة للمزارعين.
فمعدل استعمال الأسمدة في الإنتاج الزراعي في المنطقة العربية 54 كيلوغراماً للهكتار. في المقابل، تجد أن المعدل العالمي لاستخدام الأسمدة في الزراعة هو 96 كيلوغراماً، ما يفسر أحد أسباب تخلف الإنتاجية الزراعية والقمح في المنطقة العربية.
الملاحظ في موضوع الأسمدة أيضا، أن الغاز الطبيعي يدخل في صناعتها بما يمثل 70 بالمائة من تكلفة الإنتاج. وأكثر الدول العربية المنتجة للغاز الطبيعي، هي مصر والجزائر، يعاني المزارعون فيها من شح الأسمدة وارتفاع سعرها، وبالتالي انخفاض معدل استخدامها بسبب فقر الفلاحين. والنتيجة أن الدولتين من أكثر دول العالم استيرادا للقمح.
تحتل مصر المركز الأول عالميا في الاستيراد والجزائر المركز الخامس. ولو وجهت مصر حصة أكبر من الأسمدة الأزوتية للفلاحين لتحسنت إنتاجية القمح. نفس النتيجة في الجزائر لو استثمر جزء أكبر من الغاز الطبيعي لإنتاج الأسمدة للسوق المحلي.
المحصول اليتيم
ارتفع إنتاج العالم من القمح كمحصول إستراتيجي إلى مستوى قياسي لم يبلغه محصول آخر، في المساحة وكمية الإنتاج، وصل إلى حد التشبع تقريبا وأصبح لا يُغري حكومات الدول المنتجة بالتوسع في الاستثمار لزيادة المساحة بسبب كُلفته العالية.
لذلك يوصف محصول القمح باليتيم، حيث انخفضت استثمارات الاتحاد الأوروبي وأميركا الموجهة إليه في العقد الفائت إلي ربع ما تنفقه على البحوث الموجهة لزيادة إنتاجية محصول الذرة والصويا.
والنتيجة هي أن المتاح للتجارة الدولية لا يلبي احتياجات الدول المستوردة، واضطرابات الأسواق وتقلبات الأسعار في تزايد، خاصةً في منطقة الشرق الأوسط، كما حدث في عام 2010 حيث خفضت روسيا إمدادات التصدير فقل المعروض وزادت الأسعار بدرجة كبيرة ساهمت في إشعال الربيع العربي.
الاستثمارات الزراعية العربية في زيادة إنتاج وإنتاجية القمح منخفضة جدا ولا ترقى إلى تحديات الزيادة السكانية والتحديات السياسية والبيئية.
بعض الدول العربية تخلت عن الاستثمار في خطط الاكتفاء الذاتي من القمح والتي دشنتها عقب أزمة الغذاء العالمي في سنة 2007، بحجج واهية مثل ندرة الموارد المائية ومحدودية الرقعة الزراعية.
وهناك دول عربية أعلنت صراحة تفضيلها استيراد القمح الأجنبي بحجة أنه الأقل في التكلفة من القمح المنتج محليا.
ودول عربية أخرى وجهت استثماراتها الزراعية لإنتاج محاصيل هامشية وأقل أهمية من القمح، مثل الموز والبرسيم والكنتالوب، أو محاصيل استفزازية لا تسمن ولا تغني من جوع، مثل الكاكي وبطيخ لب التسالي وحشائش اللاند سكيب، بحجة تصديرها بأسعار عالية واستيراد القمح بسعر أقل.
واردات القمح في الدول العربية سوف تزيد بنحو 75 بالمائة على مدار الثلاثين عاما القادمة، وفق توقعات المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية.
وفي ظل إهمال زراعة محصول القمح، هناك تحذير للدول التي تعتمد بصورة أكبر على استيراد القمح وتعاني عجزا ماليا هائلاً، مثل مصر والجزائر وتونس والمغرب وليبيا والأردن واليمن وجيبوتي ولبنان والعراق وسورية، لأنها أكثر عرضة لتقلبات الأسواق وصدمات أسعار الغذاء الدائمة.
لذلك تحتاج الدول العربية إلى الاستثمار العاجل في البحوث الزراعية وتكنولوجيا إنتاج التقاوي عالية الإنتاج والمقاومة للأمراض والتغيرات المناخية، ورفع كفاءة استخدام الأسمدة الزراعية، وتطوير وسائل الري، وبرامج إرشاد المزارعين لاستخدام التقنيات الحديثة في زراعة المحصول الإستراتيجي الأول في العالم، لزيادة إنتاجية القمح إلى الضعف، وتقليل فجوة القمح والاضطرابات الاجتماعية والسياسية المرتبطة بها.