تسعى الحكومة العراقية لاستعادة ملف الأموال المهربة إلى الخارج، بناءً على مكافأة أعلنت عنها أخيراً، وهي طريقة لم تكن تتعامل بها الحكومات السابقة، على أمل أن تصل إلى مئات المليارات التي سُرقت من الدوائر والمؤسسات الرسمية، وما جرت تغطيته تحت عناوين المشاريع والاستثمارات والصفقات، ناهيك عن الاختلاس من الأموال المخصصة لتغذية الوزارات منذ عام 2003، التي قدرتها ولجان برلمانية ومراقبون بنحو 450 مليار دولار.
ودعا "صندوق استرداد أموال العراق"، وهو جهة رسمية، جميع المواطنين، سواء في داخل العراق أو المُقيمين خارجه، للتعاون من أجل استرداد أموال العراق وإرجاعها إلى خزينة الدولة.
مكافأة للمواطنين
ذكر بيان للصندوق صدر أول من أمس، أنّه "يعِد المُتعاونين معه من المُخالفين بإعفائهم من المبالغ المُترتِّبة بذمَّتهم وبنسبة (25 بالمائة) ولغاية 5 ملايين دولار من المال المُسترد كحدّ أعلى"، مبيناً أن "مجلس إدارة الصندوق يمنح مكافأة للمُخبر بنسبة (10 بالمائة) على ألّا تتجاوز 5 ملايين دولار من المال المُستردّ، وفي حالة تعدُّد المُخبرين فستوزَّع المكافآت بنسبٍ مُحدَّدة لكلّ منهم، وبحسب دور كلّ منهم في استرداد المال".
ونهاية العام الماضي، قال رئيس الجمهورية السابق برهم صالح إنه "بصدد وضع مدونة قانونية تتناول آليات لاسترداد الأموال العراقية الموجودة في الخارج". جاء ذلك، في وقت تحدث فيه وزير المالية علي علاوي عن وجود نحو 250 مليار دولار سرقت من العراق منذ عام 2003، معتبراً أنّ هذه السرقات
أدت إلى تراجع قدرات العراق الاقتصادية، لكنّ لجنة النزاهة في البرلمان كانت قد قدّرت مطلع العام الماضي حجم الأموال المهربة خارج البلاد بنحو 350 تريليون دينار (239.7 مليار دولار أميركي)، وهو رقم يفوق موازنة البلاد لأكثر من عامين، وفقاً لتقديرات البرلمان العراقي.
محاسبة الفاسدين
في السياق، قال عضو البرلمان العراقي، معين الكاظمي، إنّ "حكومة محمد شياع السوداني وضعت ضمن أولوياتها محاسبة الفاسدين واسترداد المهرب إلى الخارج من أموال العراق، وهناك سلسلة إجراءات قانونية تسعى إليها الحكومة الحالية، من خلال قوانين عراقية وأخرى دولية، لا سيما مع وجود اتفاقية غسل الأموال لعام 2005، والخاصة باسترجاع الأموال المهربة، وأن العراق وقّع على هذه الاتفاقية عام 2007".
وأوضح الكاظمي لـ"العربي الجديد"، أن "الحكومة لديها معلومات كثيرة وجيدة عن هذا الملف، لكن هناك حاجة إلى تعاون دولي لإرجاع الأموال المنهوبة، كما أنّ إدخال العراقيين على خط الإبلاغ عن سارقي المال العام سيُسهل عملية الوصول إلى هذه الأموال".
وأضاف النائب البرلماني، أن "الحكومة السابقة (برئاسة مصطفى الكاظمي) كانت قد تعهّدت عبر سلسلة من البيانات والجلسات الوزارية بأنها ستتمكن من التقدم في هذا الملف، لكنها في الحقيقة لم تتمكن من فعل أي شيء، رغم أن الكثير من الأموال العراقية معروفة أماكنها، وبعضها تحوّل إلى استثمارات في الخارج، وكان بالإمكان إصدار تشريع أو قانون لعودتها".
ولفت إلى أنّ "الأموال المهربة للخارج كفيلة بأن تنهض بالعراق في مختلف المجالات، بل إن بإمكانها أن تساهم بدفع عجلة الخدمات والطاقة إلى المقدمة، بعد توفير الحماية لها، والحرص على عدم الاستيلاء عليها من قبل بعض الكيانات السياسية الفاسدة".
عدم الوقوف أمام السارقين بجرأة
من جهته، بيَّن عضو "تيار الحكمة" السياسي، النائب السابق محمد اللكاش، أن "جميع المصادر الإحصائية وبيانات السياسيين واللجان المالية في البرلمان والجهات الرقابية تشير إلى أن الأموال المهربة من العراق تقترب من 500 مليار دولار، وأن الحكومات تعرف الجهات المتورطة بسرقتها وتهريبها، لكنها لا تجرؤ أحياناً على الوقوف بوجه السارقين، مرة لأن الحكومة تكون جزءاً من هذا الفساد، ومرة لأن الجهات الفاسدة عادة ما تمتلك نفوذاً سياسياً ومسلحاً".
واعتبر اللكاش في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن "مبادرة برهم صالح (رئيس الجمهورية السابق)، العام الماضي، كانت قريبة جداً من التحقق، لا سيما أنها أوجدت ما يُعرف بـ"مجلس الاستثمار للمغتربين العراقيين، وكانت تهدف إلى دعم المستثمرين في الخارج من جهة، ومحاولة إعادة نسب جيدة من الأموال العراقية المهربة، إلا أن قوى سياسية لم تتعاون في هذا الجانب".
وأكد أن "حكومة السوداني في حال أرادت بالفعل التقدم بهذا الملف، فإن التحقيقات ستكشف فضائح، وقد تسقط أسماء قيادية وزعامات في الأحزاب، لأنهم على صلة بالمهربين والسارقين".
أما السياسي العراقي ورئيس حركة "كفى" رحيم الدراجي، فقد لفت إلى أن "أكثر الأسباب التي دفعت إلى اندلاع الاحتجاجات الشعبية عام 2019 هو الفساد، وأن الفساد في العراق لا يُفهم على أنه تراجع في مستوى رعاية العراقيين والخدمات، بل الأموال الكبيرة المنهوبة والخيرات التي يجري تسريبها إلى الخارج".
وأكد الدراجي لـ"العربي الجديد"، أن "هناك الكثير من الشخصيات والأحزاب والكيانات والجماعات التي تمتلك نفوذاً داخل الدولة العراقية، ستمنع أي تقدم في محاولات استرداد أموال العراق، لأنها ستتعرّض إلى خسارة اقتصادية من جهة، وفضيحة تاريخية من جهة ثانية".
لسياسي العراقي ورئيس حركة "كفى" رحيم الدراجي، فقد لفت إلى أن "أكثر الأسباب التي دفعت إلى اندلاع الاحتجاجات الشعبية عام 2019 هو الفساد"
معوقات سياسية
قال رئيس "مركز التفكير السياسي"، في العاصمة بغداد، إحسان الشمري، إن "وجود إرادات ومعوقات سياسية، تتمثل في أن جزءاً من الأحزاب السياسية الحالية متورط بالفساد وعمليات تهريب الأموال ونقلها للخارج طيلة السنوات الماضية، كما أن التهريب لا يتوقف، وهو لا يعني بالضرورة تهريب العملة، بل يأخذ أشكالاً أخرى منها تهريب النفط والتبادل التجاري المشبوه".
وأشار رئيس "مركز التفكير السياسي"، في اتصال مع "العربي الجديد"، إلى أن "بعض الأحزاب والقوى لن تسمح بإقرار أي قوانين قد تمهّد لمساءلتها، في حين أنها تدعم عبر منصاتها الإعلامية الجهود التي يمكن من خلالها استرجاع الأموال المنهوبة، في إطار لعبة سياسية باتت مكشوفة. مع العلم أن استعادة هذه الأموال ممكنة، لكنها تحتاج إلى إرادة قوية وجهود دبلوماسية كبيرة".