قبل أيام قليلة، خرج علينا مصدر مسؤول بالبنك المركزي المصري، بتصريح لافت قال فيه إن مصر سددت 30 مليار دولار ديوناً والتزامات لجهات خارجية خلال العام 2017، وأنها ملتزمة بسداد أكثر من 12 مليار دولار خلال 2018.
أول ما يلفت النظر في التصريح أنه منشور فقط في وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية، وأن الصحف والمواقع الاليكترونية نقلت عن الوكالة فيما بعد، وهو ما يعني أن صاحب القرار الاقتصادي يريد إيصال رسالة من خلال الوكالة الرسمية مفادها أن مصر سددت كل هذه المليارات والالتزامات المستحقة رغم الظروف الاقتصادية والمالية التي مرت بها، وأنها لن تتأخر في سداد المديونيات والمستحقات عليها في العام الماضي 2017، وأنها مستعدة أيضاً لسداد 12 مليار دولار في العام الجديد.
لا أعرف هنا من هي الجهة المستهدفة بهذا التصريح الرسمي وفي هذا التوقيت بالذات، هل المصريون في الداخل وسوق الصرف المحلي، أم أسواق المال العالمية والمستثمرون الدوليون الذي يعرفون كل شيء عن وضع مصر المالي والاقتصادي.
ثاني الأمور الملفتة للنظر هو أن التصريح لم يأت على لسان مصدر معلوم، بل تمت نسبته إلى مصدر مجهول، وهو ما يثير الانتباه، خاصة إذا ما علمنا أن كل شاردة وواردة تتعلق بالاقتراض الخارجي تأتي في شكل تصريح على لسان كبار المسؤولين الاقتصاديين في مصر وفي مقدمتهم طارق عامر محافظ البنك المركزي المصري، وسحر نصر وزيرة الاستثمار والتعاون الدولي، وعمرو الجارحي وزير المالية وغيرهم.
ومن هنا، فإن التصريح للوكالة الرسمية يثير السؤال التالي: إذا كان هذا المصدر المسؤول متأكداً من رقم السداد الضخم المعلن والبالغ 30 مليار دولار، فلماذا يخفي هويته ولم يكشف عن نفسه كما جرت العادة مع أخبار القروض الخارجية والتفاوض مع مؤسسات دولية للحصول على شرائح جديدة من القروض أو تجديد قروض قائمة.
ما علينا من النقاط التي قد ينظر لها البعض على أنها شكلية، ولندع هذين الأمرين جانباً، ولنأتِ لجوهر وصلب التصريح الذي يحمل 3 أسئلة أو ألغاز لا تجد إجابة مقنعة حتى الآن، هي:
اللغز الأول :
كيف يقول المصدر إن مصر سددت 30 مليار دولار في عام 2017، في الوقت الذي يرتفع فيه الدين الخارجي للبلاد، إذ وحسب الأرقام المنشورة من قبل البنك المركزي المصري فإن الدين الخارجي لمصر ارتفع بواقع 41.6 % ليصل إلى 79 مليار دولار بنهاية السنة المالية 2016-2017، وأن الدين الخارجي زاد بنحو 23.2 مليار دولار في هذه السنة المالية مقارنة مع السنة السابقة.
مع العلم أن رقم الدين المعلن لا يحتسب القروض الخارجية التي حصلت عليها مصر بعد 30 يونيو 2017 ومنها مليارا دولار يمثلان الشريحة الثالثة من قرض صندوق النقد الدولي، والشريحة الثالثة من قرض البنك الدولي البالغ قيمتها 1.150 مليار دولار، كما حصلت مصر في أكتوبر الماضي على 125 مليون دولار من إجمالي قرض قيمته 500 مليون دوﻻر من البنك الدولي لتنفيذ برنامج التنمية المحلية في الصعيد.
اللغز الثاني:
كيف تسدد مصر 30 مليار دولار في 2017، وفي نفس الوقت يواصل احتياطي البلاد من النقد الأجنبي ارتفاعه ليكسر حاجز رقم 37 مليار دولار، وهو رقم يفوق قيمة الاحتياطي الأجنبي قبل قيام الثورة المصرية في يناير 2011، فمن المعروف أن سداد الديون الخارجية يأتي عبر سحب جزء من الاحتياطي الأجنبي يعادل قيمة الدين المستحق، وحتى لو افترضنا أن مصر حصلت على قروض خارجية جديدة لسداد ديون قائمة، فالمعلومات المتاحة من البنك المركزي ووزارة المالية لا تدعم هذه الفرضية.
إذن، ما هي مصادر سداد مصر 30 مليار دولار في عام، خاصة ونحن نتحدث هنا عن سداد ديون والتزامات خارجية بالدولار وبعملات أجنبية أخرى، وبالتالي لا يمكن سدادها بطباعة بنكنوت بالجنيه المصري من قبل البنك المركزي، أو حتى من خلال الاقتراض من البنوك عبر طرح أذون خزانة وسندات محلية.
السؤال هنا، هل تم سداد 30 مليار دولار من حصيلة استثمارات الأجانب في أذون الخزانة والسندات والبالغ قيمتها نحو 19 مليار دولار في نوفمبر 2017، إذا حدث ذلك يكون الأمر خطراً، لأن هذه الاستثمارات يمكن أن تنسحب في أي لحظة في حال حدوث مخاطر اقتصادية وسياسية شديدة، وهنا سيلجأ البنك المركزي للسحب من الاحتياطي الأجنبي لتغطية مستحقات الأجانب.
ولنا أن نتخيل سحب 19 ملياراً من احتياطي أجنبي يبلغ 37 مليار دولار كما جرى عقب ثورة 25 يناير 2011، علماً بأن الجزء الأكبر من تركيبة هذا الاحتياطي عبارة عن قروض خارجية.
اللغز الثالث:
أن كل التصريحات الرسمية تقول إن الديون المستحقة على مصر في العام 2017 لا تعادل ثلث المبلغ الذي تم الإعلان عن سداده، وحسب أرقام البنك المركزي في إبريل 2017 فإن إجمالي الدين قصير الأجل المستحق على مصر وواجب السداد قبل نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2017، يبلغ 11.9 مليار دولار، وقال مسؤول كبير في وزارة المالية المصرية، إن القاهرة مُطالبة بسداد ديون خارجية بقيمة 8 مليارات دولار خلال العام 2017.
ومع الأخذ في الاعتبار الديون التي تقرر تأجيل سدادها مثل اتفاقية تبادل العملات مع الصين بقيمة 2.75 مليار دولار، وسندات دولية بقيمة 1.3 مليار دولار وغيرها، فإن الديون التي سددتها مصر في العام 2017 كانت أقل كثيراً من رقم البنك المركزي المعلن وهو 11.7 مليار دولار.
إذن ما هي حكاية سداد 30 مليار دولار التي كشف عنها المصدر المسؤول لوكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية؟
إذا تعاملنا مع رقم 30 مليار دولار على أنه صحيح ويمكن تصديقه، هنا يمكن وضع تفسيرين في محاولة لفك الأغاز السابقة:
التفسير الأول:
هو أن ما تم سداده ليس فقط يخص الديون الخارجية المستحقة على مصر، وإنما يتضمن الرقم أيضاً الديون المستحقة كذلك على الهيئات الحكومية للخارج مثل فاتورة استيراد الوقود والغاز المستحقة على الهيئة المصرية العامة للبترول، وكذا فاتورة استيراد الأغذية والسلع التموينية من سكر وزيوت وقمح وغيرها والمستحقة على هيئة السلع التموينية، وكذا مديونيات مستحقة على جهات حكومية أخرى مثل الهيئة العامة للكهرباء وقناة السويس وغيرها.
وهذا أمر غريب إن حدث، لأن سداد التزامات هذه الجهات الحكومية هو عملية تتم سنوياً وبشكل روتيني وتدخل في إطار سداد الحكومة فاتورة الواردات الخارجية، وكذا سداد مديونيات الهيئات التابعة لها للخارج، وإذا صدق هذا التفسير فإننا هنا نكون أمام خلط واضح للأرقام، وإن شئنا الدقة، نكون أمام عملية تدليس تتم على الرأي العام، إذ يجب الفصل التام بين سداد ديون مصر الخارجية، وسداد أية التزامات أخرى على مؤسسات الدولة سواء كانت واردات أغذية أو وقود أو غيرها.
التفسير الثاني:
هو أن البنك المركزي اعتبر تأجيل سداد ديون خارجية وإعادة جدولتها وتجديد القروض المستحقة نوعاً من السداد، ومن هنا تم التعامل مع القرض الصيني البالغ 2.75 مليار دولار والذي تم مد أجل سداده لمدة عام على أنه تم سداده بقروض جديدة من البنك المركزي الصيني، وكذا الحال مع السندات الدولية التي تم اقتراضها عقب تعويم الجنيه في نوفمبر 2016، وكذا مع أي مديونيات كانت مستحقة السداد في نهاية 2017، ولو حدث ذلك نكون أمام حالة تلاعب صارخة بالأرقام.
في كل الأحوال، نحن في انتظار توضيح من البنك المركزي المصري المسؤول الأول عن إدارة الديون الخارجية واحتياطيات البلاد من النقد الأجنبي.