قبل يوم 7 أكتوبر الماضي كانت الرسالة الصادرة من حكومة دولة الاحتلال، ومعها وسائل الإعلام العبرية والعالمية وبعض وسائل الإعلام العربية، تجاه العرب تحمل نوعا شديدا من الصلف والتكبر والغلظة والمعايرة بالتخلف والجوع والفقر والاستبداد والبؤس والغموض واللايقين من المستقبل.
رسالة كانت دوما تحمل سؤالاً كبيراً مطروع علينا نحن الشعوب المقهورة هو: لماذا لا يقتدي العرب بإسرائيل اقتصادياً وعلمياً وسياسياً واجتماعيا وثقافيا، وسيتفيدوا من تجربتها في مجال الهندسة المالية وهندسة الموازنة العامة وزيادة الإيرادات بعيداً عن جيب المواطن؟
وفي التفاصيل كانت هناك عشرات النصائح منها: "إنه أذا أردتم يا عرب تحقيق الازدهار الاقتصادي والرفاهية للمواطن والنمو المرتفع للاقتصاد والاعتماد على الذات وإحداث طفرة صناعية وزراعية، فعليكم بتطبيق التجربة الإسرائيلية في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فهي تجربة حية لحكومات دول المنطقة في إخراج شعوبها من حالة العوز والفقر والبطالة والديون والعشوائيات، مع ترسيخ قيم مكافحة الفساد والمحاسبة، والانتقال سريعا إلى ساحة الثراء والرفاه الرحبة والأجور المرتفعة ومستوى المعيشة المريح".
كان الإعلام العبري، ومعه العالمي، يزعم قبل طوفان الأقصى أن قصة النجاح والتفوق الإسرائيلي هي الطريق الوحيد التي من الممكن أن تسير عليها دول الشرق الأوسط إذا أرادت الازدهار الاقتصادي ورفع المستوى المعيشي للمواطن.
كان الإعلام العبري، ومعه العالمي، يزعم قبل طوفان الأقصى أن قصة النجاح والتفوق الإسرائيلي هي الطريق الوحيد التي من الممكن أن تسير عليها دول المنطقة
وأنه لا بديل أمام تلك الدول التعيسة عن اتباع ذلك الطريق، لأن أيام وفرة الثروات والفوائض المالية ومليارات الصناديق السيادية قد انتهت وولت، أو تكاد تنتهي حتى عند الدول النفطية الثرية بما فيها دول الخليج، وأن عصر النفط قد شارف على نهايته فلم يتبق أمامه سوى سنوات.
وأن المدة الزمنية المطلوبة لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والقانونية والتعليمية المطلوبة داخل الدول العربية ليست ممتدة وليست شيك على بياض، خصوصا وأن تلك الدول تعيش على صفيح ساخن، وأن أغلبها يمر بأزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية عاصفة واضطرابات في أسواق الصرف والعملة وتفاقم أزمات الديون والغلاء والفساد المالي. وأن الحل يبدأ من إسرائيل.
كان الإعلام العبري يزعم أيضا أن إسرائيل دولة قانون ومحاسبة وحوكمة وشفافية، وأنه في ظل تطبيق تلك المعايير يتم محاسبة قادة الدولة إن أخطأوا أو أساءوا استخدام السلطة كما حدث مع نتنياهو وغيره من رؤساء الحكومات السابقة الذين تم سجن بعضهم بتهم الفساد.
وأن المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال المحلية والخارجية يشعرون بالأمان المطلق، ولا يخشون المغامرة بضخ الأموال في ظل وجود دولة وقوانين تحميهم وحالة يقين راسخة.
كان المواطن الإسرائيلي يخرج علينا ويقول في فخر " إنه رغم أننا دولة غير نفطية وليس لدينا موارد، فإن متوسط دخل الفرد في الدولة العبرية يعد من أعلى الدخول في العالم، بل ويتفوق على معظم دخول الفرد في المنطقة.
وإن المصدر الرئيسي للثروة ليس هو النفط والغاز والمواد الخام والثروات الكامنة في الأرض، بل الصناعة الحديثة وفي مقدمتها التقنية الفائقة وتكنولوجيا المعلومات والأجهزة الإلكترونية والطبية وأبحاث الفضاء وتطوير أنظمة الأقمار الاصطناعية".
كانت هذه الأساطير وغيرها تروج على نطاق واسع من قبل الإعلام العبري، مدعومة ببيانات رسمية تقول إن أغلبية الإسرائيليين راضون عن حياتهم
كما أنه لدينا صناعة عسكرية ذات تكنولوجيا متطورة، وصناعة حديثة تشبه وادي السيليكون في الولايات المتحدة، وصادرات تصل لكل أسواق العالم وتجاوزت قيمتها 160 مليار دولار في العام الماضي، وصادرات أسلحة تصل لنحو 60 دولة بما فيها الدول المتطورة في تلك الصناعة.
كانت هذه الأساطير وغيرها تروج على نطاق واسع من قبل الإعلام العبري والعالمي، مدعومة ببيانات رسمية تقول إن الأغلبية من الإسرائيليين يقولون إنهم راضون عن حياتهم ويشعرون بالأمان الشخصي، ولديهم ثقة وتفاؤل كبير بالمستقبل وباقتصاد دولتهم وفرص الاستثمار الواعدة به، وأن السنوات القادمة ستكون أفضل، وأن العالم كله يشهد برفاهيتنا.
فمنظمة الأمم المتحدة صنفت إسرائيل بالمرتبة الرابعة في مؤشر السعادة في الفترة من 2020-2022، متقدمة على دول مثل الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، فيما كان يتم تصنيف الدول العربية على أنها أكثر المناطق بؤسا وهشاشة في العالم.
ببساطة، إسرائيل كانت تعطي دروسا للعرب وتطلب منهم الاستفادة من تجربتها المطبقة على مدى نصف قرن، بحجة أنها دولة تمتلك مشروع تطوير وتنوير وتجديد، مقابل مشروعات الظلامية والتخلف وقيم الكسل والتواكل داخل المجتمعات العربية.
لكن بعد 7 أكتوبر سقطت معظم تلك الأساطير، فلم تعد إسرائيل صاحبة الجيش الذي لا يقهر، فهو الآن يقهر ويقتل جنوده وضباطه داخل حواري غزة وشوارعها وبأسلحة بسيطة، وليست ساحة الاستقرار والأمان بعد أن تهاوى قطاع الاستثمار الأجنبي بها، وفر منها مستثمروها المحليون قبل الأجانب.
لم تعد دولة الرفاه والعيش الرغد، فالخراب يسكن كل جوانبها في ظل مخاطر أمنية وجيوسياسية عالية، والجيش فشل في توفير الأمان للمواطن
ولم تعد دولة الرفاه والعيش الرغد، فالخراب يسكن كل جوانبها في ظل مخاطر أمنية وجيوسياسية عالية، والجيش فشل في توفير الأمان للمواطن، ولذا فر ما يقرب من 300 ألف مستوطن إلى الخارج، وتراجع عدد المهاجرين إلى فلسطين المحتلة بنسبة تصل إلى 50%.
وهناك نحو مليوني مواطن يعيشون تحت خط الفقر في إسرائيل، ومعدلات الفقر في الدولة العبرية بين الأعلى بالمقارنة مع الدول المتطورة، خاصة في صفوف الأطفال بحسب بيانات رسمية صادرة أمس الخميس عن هيئة البث الإسرائيلية.