عندما واجهت المكسيك أزمة مالية حادة منذ سنوات طبق الرئيس أندريس أوبرادور برنامجاً تقشفياً لمكافحة الفقر والبطالة وتحسين أوضاع البلاد الصعبة مادياً ووقف نزيف الاقتصاد.
كانت البداية بنفسه حين عرض بيع الطائرة الرئاسية الشهيرة بفخامتها، والتي كانت تُعرف باسم الفيل الأبيض واعتبرها الرئيس رمزاً للشطط في الإنفاق والفساد المالي وبذخ الحكام السابقين وفساد قادة البلد الذي يعيش نصف سكانه تقريباً تحت خط الفقر.
وقال إن حصيلة الطائرة الفاخرة التي كان يسافر على متنها سلفه ستوجه لدعم المستشفيات الحكومية وتوفير أدوية للفقراء.
الطائرة الرئاسية البالغة قيمتها 218 مليون دولار وتم شراؤها في أواخر 2012، لم تكن الوحيدة التي تقرر بيعها، بل كانت واحدة من 60 طائرة حكومية قرر أوبرادور طرحها للبيع علاوة على 70 طائرة هليكوبتر.
رئيس المكسيك يبيع طائرة رئاسية شهيرة بفخامتها لدعم المستشفيات الحكومية وتوفير أدوية للفقراء
ساعتها قال الرئيس المكسيكي قولته المأثورة: "لن أطير على متن الطائرة الرئاسية، سأشعر بالحرج. سوف يكون وجهي ممتلئاً بالخزي إذا ركبت طائرة فاخرة في بلد يعاني من فقر كبير".
وعقب توليها منصبها كرئيسة لدولة مالاوي الأفريقية وجدت، جويس باندا، نفسها أمام أزمة مالية تسببت في زيادة الفقر والجوع بين المواطنين، هنا قررت بيع طائرة الرئاسة، على أن توجه حصيلة البيع لإطعام أكثر من مليون شخص يعانون من نقص غذائي مزمن.
لم تكتفِ باندا، بإجراءات التقشف التي اتخذتها ومبادرات دعم اقتصاد البلد الفقير، بل خفضت راتبها بنسبة 30%، وتعهدت ببيع 35 سيارة مرسيدس تستخدمها حكومتها والوزراء في تنقلاتهم.
وفي شهر مايو/أيار 2020 أعلنت الرئاسة الإكوادورية أن رئيس الدولة، لينين مورينو، خفض راتبه ورواتب أعضاء الحكومة إلى النصف في إطار إجراءات تقشفية لمعالجة الأزمة المالية التي كانت تمر بها البلاد.
وفي أغسطس/آب 2018 قال رئيس أوروغواي السابق، خوسيه موخيكا، الذي أُطلق عليه لقب "أفقر رئيس في العالم"، بسبب أسلوب حياته شديد التقشف، إنه لا يرغب في الحصول على أي راتب تقاعدي، وذلك لتوفير هذه الأموال لموازنة بلاده.
حتى في دول غنية تكرر السيناريو عندما واجهت أزمات مالية، ففي روسيا خفض رئيسها فلاديمير بوتين راتبه في مارس 2015 عندما كانت تمر بلاده بأزمة اقتصادية خانقة بسبب تهاوي أسعار النفط، وفي فرنسا تم خفض راتب رئيس الدولة والوزراء وكبار المسؤولين 30% في العام 2012.
رئيسة مالاوي تقرر بيع طائرة الرئاسة لإطعام أكثر من مليون شخص يعانون من نقص غذائي مزمن
وتكرر السيناريو داخل عدة دول، إذ لجأ رؤساء هذه الدول لاتخاذ خطوات تقشفية، إما بيع الطائرات الرئاسية، أو خفض رواتب كبار المسؤولين، أو خفض مخصصات الرئاسة والحكومة والبرلمان وترشيد الإنفاق العام، إضافة إلى مكافحة الفساد والتهرب والرشى وغيرها من الإجراءات التي تحافظ على موارد الدولة وتُحسن استخدامها.
المنطقة العربية بحاجة ماسة إلى مثل تلك الإجراءات في الوقت الحالي، حيث هناك زيادات غير مسبوقة في معدلات الفقر والغلاء والبطالة وغيرها من الأزمات المعيشية.
ومن المتوقع أن تزداد حدة تلك الأزمات خلال الفترة المقبلة، إذ من المتوقع حدوث قفزات في أسعار معظم السلع الرئيسية، وزيادات في أسعار الغذاء بما فيه القمح والذرة والأرز والسكر والزيوت واللحوم والمحاصيل الرئيسة، وهو الأمر الذي حذرت منه منظمة الأغذية والزراعة، فاو، عدة مرات، وهناك أيضا زيادات في أسعار الوقود سواء البنزين أو السولار أو الغاز الطبيعي.
هذه الزيادات ستنعكس مباشرة على الأسواق ومعيشة المواطن، إذ تعقبها ارتفاعات في أسعار الدقيق والخبز ومشتقات الوقود والمواصلات العامة والاتصالات والعلاج والتعليم والدروس الخصوصية وغيرها، وقد تضغط هذه الأسعار على عملة الدولة واحتياطياتها من النقد الأجنبي.
وزيادة أسعار الغذاء والوقود يترتب عليها زيادة الأعباء التي تتحملها الموازنة العامة للدول، خصوصاً تلك التي تستورد معظم احتياجاتها الغذائية من الخارج مثل مصر والأردن وتونس والجزائر والمغرب وغيرها.
وإذا كان العالم يمر بموجة تضخم، فإنّ على الحكومات التحرك لموجهة الآثار الخطيرة المترتبة على زيادة الأسعار، لا أن تستسهل الحلول السهلة كالعادة، أو ترفع الأسعار وتحمل الزيادات على المواطن الذي بات غير قادر على مواجهة تكلفة المعيشة القاسية.
هناك حلول لمواجهة الأزمات المالية والاقتصادية يمكن أن تتم ولا تمر بالضرورة عبر جيب المواطن ووفق التعيينات في الجهاز الإداري للدولة وتجميد الرواتب.
وعلى حكومات دول المنطقة التي تعاني موازنتها العامة من عجز ألا ترهق أولا الاقتصاد في مشروعات لا تمثل أولوية للبلاد، وألا ترهق المواطن في أزمات معيشية بسبب رفع الأسعار وكلفة التوسع في الاقتراض الخارجي والمحلي.
ليس من المقبول أن يتم توجيه موارد الدولة المحدودة لإقامة قصور رئاسية وتشييد مدن للصفوة، وشراء طائرات بمئات الملايين من الدولارات
فليس من المقبول أن يتم توجيه موارد الدولة المحدودة لإقامة قصور رئاسية وملكية وتشييد مراسي يخوت، ومدن عمرانية للصفوة وكبار المستثمرين، أو شراء طائرات رئاسية بمئات الملايين من الدولارات، أو شراء عقارات في لندن وسويسرا، أو تأسيس شركات في الملاذات الضريبية.
وليس من المقبول إقامة أكبر دار للأوبرا في الوقت الذي يعاني فيه أكثر من نصف سكان بعض الدول العربية من الفقر، أو أن يتم تخصيص مئات المليارات لقطار سريع يخصص لنقل كبار الأثرياء، أو حتى إقامة ناطحات سحاب بقروض خارجية في الوقت الذي تعاني فيه الدولة ندرة في النقد الأجنبي.
والمثل المصري الشهير يقول: "على قد لحافك مد رجليك".