دعونا بداية نعترف بأن الاقتصاد المصري يعاني من أزمة حادة وأرقام مخيفة قد تدفع به إلى التهاوي في المدى المتوسط والبعيد، لا قدّر الله، وربما أبعد من ذلك إذا ما ظلت الأوضاع القائمة على ما هي عليه من دون إيجاد حل حقيقي وناجع للأزمات التي يعاني منها الاقتصاد وفي مقدمتها الارتفاع الصاروخي للدين العام.
وبداية حل الأزمة هو الاعتراف بها أولا وعدم خداع النفس بأن الاقتصاد على الطريق الصحيح حسب تصريحات رسمية تصدر من وقت لأخر، وأن ثمار الإصلاح الاقتصادي آتية لا ريب فيها في القريب العاجل.
فالاقتصاد المصري يمر بمرحلة سيئة قد تكون الأعنف في تاريخه على الإطلاق، بل وقد تفوق الأزمة الحالية تلك الأزمات السابقة التي تعرّض فيها الاقتصاد لأوجاع وضربات مؤلمة بسبب نقص السيولة وتهاوي قطاع السياحة وزيادة العمليات الإرهابية وسيطرة شركات توظيف الأموال على السوق والتوقف عن سداد الديون الخارجية، كما حدث في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ولولا حرب الخليج الأولى وإسقاط الدول الدائنة 50% من ديون مصر الخارجية بسبب مشاركتها في الحرب على العراق ومساندة الكويت لتعرضت البلاد لحالة إفلاس حينئذ.
مؤشرات الأزمة
ويكفي التدليل على وجود أزمة عميقة في الاقتصاد المصري من خلال 3 أرقام أو مؤشرات خطيرة:
الأول:
يتعلق بتفاقم الدين العام ووصوله إلى معدلات خطرة لا يمكن السكوت عنها، فالدين قارب على نحو 5 تريليونات جنيه "ما يقارب 280 مليار دولار" ، مقابل 1.7 تريليون في عام 2013، أي أنه تضاعف أكثر من ثلاث مرات خلال فترة زمنية لا تتجاوز 4 سنوات، كما تضاعف الدين الخارجي ليصل إلى أعلى مستوياته في تاريخ الدولة المصرية، وهو نحو 90 مليار دولار، إذا ما أضفنا له القروض الأخيرة التي تم الحصول عليها من صندوق النقد والبنك الدوليين والسندات الدولية سواء الدولارية أو الأوروبية، وقروض المؤسسة الإسلامية للتجارة التابعة للبنك الإسلامي للتنمية.
والجميع يعرف أن الحكومة باتت تقترض لسداد الديون القائمة، وأنها باتت تؤجل سداد ديون مستحقة، كما جرى خلال الشهور الماضية مع الكويت والسعودية والإمارات والصين.
الثاني:
هو أن الحكومة باتت توجه نحو 80% من إيرادات الدولة لسداد أعباء القروض وأقساط الديون والفوائد المستحقة عليها، وهو ما يعني أن المتبقي للأغراض الأخرى، خاصة المتعلقة بتمويل المشروعات الاستثمارية والخدمية ليس بالكثير، ومع تزايد حجم الدين العام وعجز الموازنة يمكن أن تصل البلاد إلى هذه المعادلة الخطرة، وهي أن 100% من إيرادات المصريين ستوجه لسداد أموال الدائنين والبنوك فقط، وأن على الحكومة الحصول على مزيد من القروض لسداد رواتب العاملين في الدولة وتمويل ما تبقى من دعم السلع الرئيسية كرغيف الخبز والتعليم والصحة وغيرها.
الثالث:
هو أن الضرائب باتت تشكل نحو 77% من إيرادات الدولة، وهذا يمثل خطورة، ليس فقط على دافع الضرائب ولكن على النظام الاقتصادي بالكامل، فزيادة الضرائب بلا تقديم خدمات يساعد في زيادة عملية التهرب الضريبي، والزيادة تؤدي كذلك إلى زيادة حالة الركود والانكماش الاقتصادي والتعثر بسبب ارتفاع عبء التكلفة الملقاة على المستثمرين.
سيناريوهات الحل
يبقى السؤال: هل يمكن الخروج من هذا النفق المظلم، هل هناك أمل، هل فات الأوان؟
في تقديري، فإن الأوان لم يفت بعد، وأنه رغم كل الضربات العنيفة التي تعرّض لها الاقتصاد المصري في السنوات الأخيرة، إلا أنه لم يصل إلى حد الحالة الميؤوس منها. نعم الاقتصاد في العناية المركزة، وبه خلايا سرطانية عديدة، لكنه لم يصل إلى حد الموت السريري، ومن ثم حالة الإفلاس التي تحدث عنها البعض خلال الفترة الأخيرة.
وإذا كان الحال كذلك من الخطورة مع عدم فقدان الأمل، فما هي المقترحات العملية للخروج من هذه الحالة المتردية؟
الأعتراف بالأزمة
أولا: الاعتراف بوجود أزمة حقيقية وعدم العناد أو خداع النفس، أو التحجج بأن الحكومة لديها برنامج للإصلاح الاقتصادي يتم تنفيذه بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، وأن البرنامج سيحل كل الأزمات التي يعاني منها الاقتصاد والمواطن، فالبرنامج المطبق لن يقلل من حجم الديون، سواء الداخلية أو الخارجية، بل سيدخل البلاد في نفق مظلم هو الاقتراض لسداد الديون القائمة، وسيدفع الحكومة نحو فرض مزيد من الضرائب لتغذية الإيرادات العامة وتغطية عجز الموازنة العامة.
والبرنامج لن يخفض أسعار السلع وسيؤدي إلى زيادة الضغط على الطبقات الفقيرة ومحدودة الدخل عبر خفض الدعم الحكومي المقدم لها، وضرب الطبقة المتوسطة في مقتل، وإضافة الملايين إلى سوق البطالة، والبرنامج لن يوفر فرص عمل لملايين الشباب العاطل عن العمل، ولن يؤسس كذلك مشروعات إنتاجية تساهم في زيادة الصادرات وتخفيف الضغط على العملة المحلية، ولن يقلل العجز في موازنة الدولة، بدليل تصاعد وتيرة هذا العجز.
المصالحة المجتمعية
ثانيا: إجراء مصالحة مجتمعية حقيقية بين كل أطياف المجتمع، فحالة الاحتقان الشديد الموجودة في البلاد منذ عام 2013 يجب أن تنتهي فوراً، وعلى الجميع أن يدرك أن سفينة الوطن تغرق إن لم نسارع لإنقاذها، ولن ينجو أحد طالما استمرت حالة التشرذم والعنصرية والتفرقة بين آبناء الوطن الواحد.
وهذه المصالحة يجب أن تقوم على ركائز الدول الحديثة، ومنها إعمال القانون ودولة المواطنة وإطلاق الحريات العامة والافراج عن المعتقلين السياسيين، وأن مصر تسع الجميع بغض النظر عن الديانة أو الفكر السياسي أو التوجه الإيديولوجي، وهذه المصالحة ستعمق روح الانتماء لدى الجميع، وستزيد الإنتاج، وبالتالي الصادرات.
وفي ظل المصالحة سيحقق الاقتصاد طفرة، فالمصري العامل في الخارج مثلاً سيزيد تحويلاته للداخل إذا ما شعر بالانتماء الحقيقي للوطن، وطالما اطمأن إلى أن أمواله وشقى عمره لن تتم مصادرته لأسباب سياسية بحتة، وكذا الحال مع العامل في مصنعه والتاجر والمصدر والفلاح والطبيب، فالكل سيزيد إنتاجه لمساندة اقتصاد بلده.
والمصري إذا ما استشعر أنه في دولة مساواة ومواطنة حقيقية سيشتري منتج وطنه عن قناعة، وسيقاطع المنتج المستورد حماية لعملته الوطنية، وسيساند قرارات حكومته، حتى وإن كانت تقشفية وصعبة.
أما أن يرى المواطن تفرقة حسب الفكر السياسي، وتفرقة في الرواتب والحوافز المالية حسب المهنة والسلم المجتمعي، وأن الحكومة تمنح بعض الفئات المساندة لها مزايا مادية وبلا حساب، وتمنعها عن الغالبية العظمى من المصريين، وأن غلاء الأسعار هو من نصيب الطبقات الفقيرة والمتوسطة، هنا سيقاوم أي محاولة للتغيير حتى وإن كانت لصالحه في المستقبل.
المؤسسة العسكرية والاقتصاد
ثالثا: خروج المؤسسة العسكرية من المشهد الاقتصادي وتركه للقطاعين العام والخاص، فهما أقدر على إدارته، وهذا الخروج سيحقق عدة مزايا، منها إعادة النشاط للقطاع الخاص الذي سيقع عليه العبء الأكبر في توفير فرص العمل، وتغذية الموازنة العامة بالضرائب والجمارك والرسوم، وزيادة الصادرات، وبالتالي تقليل العجز في الميزان التجاري وتخفيف الضغط على النقد الأجنبي.
تصفير الأزمات
رابعا: تطبيق سياسة تبريد المشاكل وتصفير الأزمات مع الدول المجاورة، وعدم التدخل في شؤون الآخرين، وهذا يعني تغييرا جوهريا في إدارة الملف الإقليمي. هنا يجب أن تقف مصر من الأشقاء الليبيين على مسافة واحدة، وكذا العراقيين واليمنيين، وهذه السياسة ستفتح للبلاد أسواق الدول المجاورة على مصراعيها، وفي مقدمتها السودان وليبيا ثم سورية والعراق واليمن ودول المغرب العربي ودول الخليج وغيرها.
الاقتراض الخارجي
خامساً، التوقف فوراً عن الاقتراض الخارجي، إلا للمشروعات التي تدر عائدا بالنقد الأجنبي يتم من خلاله سداد القروض، والدخول كذلك في مفاوضات مع الدائنين لشطب بعض الديون المستحقة لبعض الدول الشقيقة مثل السعودية والإمارات والكويت وسلطنة عمان، وربما بعض الدول الصديقة مثل الصين وروسيا وفرنسا وألمانيا.
المشروعات القومية
سادسا، إعادة النظر في المشروعات القومية الكبرى التي باتت تمثل عبئاً شديداً على الاقتصاد والموازنة العامة، ووقف المشروعات غير الملحّة، واستكمال ما بدأته الحكومة من مشروعات البنية التحتية المفيدة للاقتصاد والمواطن، مثل الطرق والكباري وشبكات المياه والكهرباء. أما المشروعات التي لا تحقق قيمة مضافة، فيجب تجميدها فورا، كما فعلت البلاد في سنوات سابقة مع مشروع توشكى الشهير الذي أدخل مصر في أزمة سيولة حادة، في منتصف تسعينيات القرن الماضي.
المصانع المتعثرة
سابعا، إعطاء أولوية قصوى لزيادة الإنتاج، خاصة الزراعي والصناعي، وهذا يتطلب معالجة ملف المشروعات والمصانع المتعثرة، وإعادة فتح آلاف المصانع المغلقة، والاستفادة من الطاقة الزائدة التي باتت متوفرة لدينا مع إقامة محطات كهرباء كبرى.
قطاع السياحة
ثامناً، وضع خطة واضحة لإعادة النشاط إلى قطاع السياحة الحيوي الذي شكل تاريخياً رافداً مهماً من روافد النقد الأجنبي. ويكفي أن نقول إن عودة النشاط ستدرّ على البلاد 12 مليار دولار وربما أكثر، وهو رقم يعوّض القروض الخارجية التي تحصل عليها الحكومة بشق الأنفس أحيانا وبسعر فائدة مبالغ فيه أحيانا أخرى. وهذه الخطوة تتطلب وقف الحديث المستمر عن أن مصر تحارب الإرهاب نيابة عن العالم، هذا لا يعني بالطبع وقف ملاحقة العناصر المتطرفة في سيناء وغيرها من المناطق.
النقد الأجنبي
تاسعا، تصاحب الخطة السابقة المتعلقة بقطاع السياحة خطة أكبر لزيادة موارد البلاد من النقد الأجنبي، وهذا يتطلب إعداد خطوات محددة لإعادة النشاط إلى قطاعات مدرّة للنقد، مثل الصادرات والاستثمارات الأجنبية وتحويلات المصريين العاملين في الخارج وقناة السويس.
حكومة تكنوقراط
عاشرًا، تكوين حكومة تكنوقراط بعيدة عن أي انتماءات سياسية، لتنفيذ خطة إنقاذ الاقتصاد المصري والحيلولة دون غرقه، على أن تكون هذه الحكومة مستقلة في اتخاذ قرارها، وألا تخضع للإملاءات والاعتبارات السياسية.
هذه 10 مقترحات يجب تطبيقها إذا كانت هناك نية صادقة لإنقاذ الاقتصاد المصري من الحالة التي وصل لها والتي لا تخفي على أي أحد.