قدّم المخرج الجزائري مرزاق علواش (78 عاماً)، في مساره الطويل، إضافة فنية مهمة في تاريخ السينما الجزائرية، بدءاً من فيلمه المفصلي "عمر قتلاتو" (1976)، الذي ساهم بطريقة ما في كسر سرديّة سينما الثورة الجزائرية، والتحوّل إلى سينما جديدة، تستثمر في الواقع الاجتماعي، وتتناول مواضيع غير ثورية، ليولد من ذلك العمل مرحلة سينمائية جديدة تماماً، أنتجت أفلاماً مختلفة عدّة لمخرجين شباب. بهذا، ساهم في خلق تيّار سينمائي، وكسر مرحلة كاملة. في الوقت نفسه، واصل إخراج أفلامٍ، تناولت بمجملها مواضيع الراهن، لالتصاقها بواقع الجزائر.
موضوع الإرهاب يكاد يكون أكثر ما تناوله في مجمل أفلامه. لكنّه، بين حين وآخر، يُنوّع المواضيع، وإنْ كانت متشابهة في معظمها، خاصةً أنّه بات يخرج كلّ عام فيلمين. لذا، باتت أفلامه أقلّ حِرفية وفنية من أفلامه السابقة، وأصبح يُسارع الزمن لإنتاج أكبر عدد من الأفلام، من دون أنْ يعطي للفيلم قيمته السينمائية، التي تعكس هويته الفنية وتميّزه. بالتالي، غلَّب الكَمّ على الكيف، وأصبح يقدّم أفلاماً عادية وهشّة أحياناً، لا تحمل قيمة سينمائية كبيرة، يسدّ بها فراغاً تشهده السينما الجزائرية.
هذه المعطيات انعكست في أحدث أفلامه، "العائلة" (2022)، المُشارك في مسابقة "آفاق السينما العربية"، في الدورة الـ44 (13 ـ 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي". تدور أحداثه في فترة الحراك الجزائري عام 2019، عبر نماذج بشرية في عائلة بورجوازية منتفعة من الأنظمة السياسية المتعاقبة، يعكسها الأب (عبد الرحمن إيكاريوان)، الذي كان وزيراً سابقاً، تحاصره ملفات فساد عدّة، إذ بدأ اسمه يُذكر في تقارير مختلفة، فأصبح يخاف على نفسه من السجن. المعطى نفسه تتشارك فيه زوجته (حميدة آيت الحاج)، المنتفعة هي أيضاً من الأنظمة السابقة. كانت تعتمد على جسدها لتحافظ على مكتسباتها، وترقية زوجها. إضافة إلى ابنتهما (نرجس عسلي)، المنخرطة في الحراك، رافعةً العلم الجزائري، تُطالب كغيرها بسقوط النظام، وضرورة محاسبة الفاسدين. تشارك كلّ يوم جمعة في المظاهرات، رفقة صديقتها المقرّبة (مريم عمير).
لهذا، بدأ الوزير السابق يبحث عن مخرج من هذه الورطة المقتربة منه، فيكلّف حارسه المقرّب خالد (نصر الدين جودي) بإيجاد طريقة للهروب والسفر، ستكون عبر الحدود المغربية. كما بدأت زوجته بيع الممتلكات (شقق ويخت ولوحات فنية وغيرها) التي حصلت عليها كهدايا، بسبب فساد زوجها. ثم تبدأ الرحلة باتجاه الحدود المغربية، تحصل فيها أحداث أخرى غير متوقّعة، فتتعقّد الأمور، وتتوجه نحو السواد، خاصةً أنّ هناك مفاجآت عدّة لم تنتظرها العائلة.
لم يحمل السيناريو (علواش) أحداثاً غير متوقّعة، فكل ما قدّمه منطلقات بديهية بنتائج منتظرة، وهذا هَدَم القيمة السردية لـ"العائلة"، وجعله ينزلق إلى العاديّ الذي يُثير مللاً لدى الجمهور، لأنّه يتوقّع أحداثاً يُشاهدها و"يتنبأ" بأخرى. أي أنّ علواش لم يقدّم معالجة جديدة أو مبتكرة، مختاراً فقط قصّة من الراهن، أعاد تشكيلها وفق سياق محدود، فأصبحت التفاصيل في تناول الجمهور، الذي سيتعالى من خلالها على المخرج. خيَّب الفيلم ظنّ المتلقّي الحصيف، الباحث دائماً عمّا يثيره ويحرّك ذائقته السينمائية. كما أنّه لم يستطع إدارة الممثلين كما ينبغي، ولم يُحسن استغلال ممثلين لديهم مواهب كبيرة، بسبب خيارات خاطئة. لكنْ، هناك من صنع استثناءً، كالممثلة فوزية آيت الحاج، التي أظهرت طاقة رهيبة، وأعطت للعمل نكهة كوميدية خاصة، بشخصيتها المرحة، وحضورها القوي. غير أنّ هذا كلّه لا يكفي، فالطاقة التي تملكها الممثلة كان يمكن أن تقلب موازين الفيلم. حاصر علواش شخصيتها، وحوّل المأساة التي تعيشها العائلة إلى مشاهد كوميدية عبرها.
هذا خيار فني لا يليق بدرامية الفيلم وتوجّهه وموضوعه. كما أنّه لم يستغل حضور الممثل خالد بن عيسى وموهبته، فأعطاه دوراً ثانوياً يُمكن لأيّ ممثل، مهما كانت قيمته، تأديته بسهولة. إضافة إلى الممثلة نرجس عسلي، التي لم تقدّم شخصية مُقنعة، مؤدّية دورها ببرودة تامة، غير مُقنعٍ (الدور) بالألم الذي تعيشه، لأنّ عائلتها مُهدّدة بالتفكّك والسجن، بينما تميل هي إلى الحراك. هذه المفارقة لم تنعكس في الشخصية كقيمة نفسية، لها أبعاد بين العاطفة الإنسانية ـ التي يحسّها الفرد تجاه أسرته، مهما كانت، لأنه لم يخترها ـ والمطالب الموضوعية، التي يعكسها الحراك كقيمة حضارية ضد فكرة الفساد.
كان يُمكن لعلواش، لو أحْسَن إدارة الممثلين، أنْ يعكس الدورين بين نرجس عسلي ومريم عمير، لتؤدّي كل واحدة منهما دور الأخرى. فالأخيرة تملك ملامح قوية ومعبّرة، تُمكّنها من أداء تلك الشخصية المضطربة والواقعة بين نارين.
الذهاب بشكل مباشر إلى موضوع الفساد أرهق "العائلة"، وهَدَم معظم الأبعاد التأويلية، التي كان يمكنها أن تكون فيه. كان يُمكن لمرزاق علواش، ككاتب السيناريو والحوار، أنْ يراوغ فيُقدّم الموضوع بشكل مختلف، فيضمن خلق لغة سينمائية في فيلمه، ويُبعد ذلك الاضطراب والتفكّك في تفاصيله. كان بوسعه، لو استعان بكاتب سيناريو جيد، تقديم موضوعه بطريقة أكثر ذكاء. مثلاً: اختيار امرأة حامل توشك على الولادة، لم تجد طريقها إلى المستشفى بسبب الحراك، وطبيبة المستشفى منشغلة بأسرتها المهدّدة بالسجن. يمكن أنْ تكون هذه القصة المحور الرئيسي، بينما يجعل قصّة الوزير الفاسد ثانوية.
كان يُمكن لمعالجة جيدة أنْ تُحوّل المتن إلى هامش والهامش إلى متن. من هنا، يُمجَّد الحراك والتعريف بالفساد بحرفية أكثر. هذا مثل بسيط عن تعدّد خيارات القصّ والسرد، ولا يمكن أنْ يكون تدخّلاً في خيارات مرزاق علواش.
"العائلة" ("العايلة" باللهجة الجزائرية) فيلمٌ مستعجل ومضطرب، كأفلام أخيرة لعلواش، منها "ريح رباني" (2018)، وفيه المعطيات السلبية نفسها المذكورة، بتقديمه صورة سلبية عن التسرّع وعدم الاهتمام بالتفاصيل التي تصنع فيلماً جيداً. ربما حان الوقت لاستعانة مرزاق علواش بكتّاب سيناريو يحملون روحاً جديدة، ويبثّون دماءً مختلفة في أعماله، دافعينها إلى مسار أكثر فنية، بدل السقوط في الأخطاء والمعطيات نفسها التي تحدث في أفلامه، أو إعطاء وقت كافٍ لأيّ عملٍ يقوم به، من كتابة السيناريو إلى الإخراج، بدل صنع فيلمٍ في أسبوعين أو ثلاثة.