يتقدّم شبحٌ من عمق الكادر في الصحراء نحو هياكل عظمية مُشتّتة، في مُقدّمة الكادر. لذا، تبدو بقايا العظام البشرية المتناثرة أضخم وأوضح من الشبح. اللقطةُ إنذارٌ بالمقبل. يتقدّم الشبح، بعد أنْ صَبَر عشر سنوات منذ النكبة، والإقامة في المخيّمات. تَعب، فقرّر الهجرة إلى الخليج العربي مروراً بالعراق.
هذا حاصلٌ في "المخدوعون" (1972)، للمخرج المصري توفيق صالح، الذي يعرض محاولة هجرة ثلاثة فلسطينيين، بحثاً عن حياة أفضل.
قَطَع الكهل والشاب والمراهق الصحراء العربية فرادى، مشياً في أغسطس/ آب. قطعوا الصحراء. مَن لم يعبر الصحراء، لا يعرف قسوتها. بعد الوصول إلى البصرة، تجوّل الثلاثة بين المُهرّبين، بحثاً عن تذكرة عبور أرخص. هناك إجماع بين المُهرّبين على السعر، وجُلّهم يُرسلون أدلاء غدّارين. لذلك، وثق الفلسطينيون بمهرّب ابن بلدهم.
كان التيه في الصحراء من دون بوصلة استعارة مناسبة لوضع الفلسطينيين. تشترك الأجيال الثلاثة في مصير واحد، في صهريج ماء حديدي جاف مغلق، في أوجّ الحرّ الذي جعل "الفلسطيني في المقلاة"، بتعبير غسان كنفاني.
كتب كنفاني روايته "رجال في الشمس" باقتصادٍ، في مائة صفحة. رواية أنيقة غير متورّمة بالاستطرادات والخواطر الإنشائية، بل فيها أحداث واضحة متماسكة، يسهل اقتباسها للسينما، لأنّ فيها حبكة محبوكة: "يقوم فنّ الحبك على ربط الأحداث بحيث يُفترض أنْ يرى فيها المُشاهد دائماً سبباً يُرضيه" ("معجم المسرح"، باتريس بافي، ترجمة ميشال ف. خطّار، "المنظمة العربية للترجمة"، بيروت، الطبعة الأولى، 2015، ص. 294).
تتميّز "رجال في الشمس" بتنوّع أساليب العرض: من سرد تعاقبي وحوار ومونولوغ وسرد تراجعي (فلاش باك)، وتكرار يضمن التماسك (لايت موتيف)، ليربط الكاتب بين دروس الجغرافيا في فلسطين (في المدرسة) ومصير الفلسطيني المهاجر، الذي وصل إلى منطقة شطّ العرب، وسكن فندق شط العرب. رواية مكتوبة باقتصاد وسخرية حادّة، تناسب مخرجاً مصرياً يتبنّى أسلوب الواقعية الجديدة.
هذا فيلمٌ لمخرج مصري، بإنتاج سوري، وسيناريو مقتبس عن رواية فلسطينية، يؤدّيه ممثلون سوريون وفلسطينيون. صُوَر الفيلم في المنفى. شعبٌ في المنفى، سينما في المنفى. لا يستطيع المخرج الفلسطيني التصوير في أرضه.
كانت "رجال في الشمس" ضمن مُقرّر البكالوريا ـ شعبة الأدب، وكان مُدرّس المادة أستاذاً فلسطينياً من غزة. قدّم لنا، نحن طلبته، محاضرات عدّة عن الرواية في الثانوية التي درستُ فيها، في مدينة تيفلت (60 كلم شرقي العاصمة المغربية الرباط): "يسمع أبو قيس نبض قلبه حين يضع صدره فوق التراب الندي. تختصر هذه اللقطة علاقة الشخصية بالأرض. بعدها تفرّقت قلوب وضلوع الفلسطينيين".
هكذا علّق الأستاذ الفلسطيني، مُفسّراً أحداث الرواية. حينها روى الأستاذ أنّه وصل إلى المغرب عام 1969، وكان يبلغ 19 عاماً. كان يعتبر مشكلته صغيرة، ستُحلّ سريعاً بإلقاء إسرائيل في البحر. هذا ما رسّخه الإعلام المصري في أذهان الفلسطينيين. بلغت نسبة الأمل لديه بالعودة إلى فلسطين مائة في المائة. بعد ثلاثين سنة، أكمل الرجل تعليمه، وحصل على الدكتوراه، ونال وظيفة، ولا يزال في المغرب. بعد النكسة، أعلن نزار قباني بخيبةٍ: "بالناي والمزمار، لا يحدث انتصار"، ثم استخلص الشاعر الذي لم يقصِر شعره على المرأة: "كلّفنا ارتجالنا خمسين ألف خيمة جديدة".
كانت لمحاضرات الأستاذ الفلسطيني عن رواية غسان كنفاني وقع عليّ وعلى شباب المدينة. حين شاهدتُ "المخدوعون"، كانت لدي معرفة دقيقة بالسياق التاريخي لتزايد خِيَم اللاجئين. التقت الرواية والفيلم على الطريق (رود موفي)، لكشف رحلة باتجاه العدم.
يعتبر "المخدوعون" أحد أهمّ الأفلام في تاريخ السينما العربية. دمج المخرج صُوراً توثيقية للنكبة والقمم العربية الإسلامية للتضامن مع فلسطين. لذلك، مُنع من العرض في جُلّ الدول العربية التي تنظم وتشارك بحرارة في القمم العربية والإسلامية. حالياً، صار الفيلم متوفّراً بفضل "يوتيوب"، عدوّ الرقابة. أما عرضه في المغرب، فكان باكراً، ضمن أنشطة الأندية السينمائية التقدمية، في سبعينيات القرن الماضي.
من منظّمي هذه الأندية الناقد السينمائي المغربي محمد كلاوي، الذي كتب مُطوّلاً عن الفيلم: "هذا أحد أهم الإنتاجات في لائحة الأفلام العربية والعالمية، لأنّه أبرز العلاقة المتوازية بين واقع فضاء الصحراء "العاري"، والحقيقة "العارية" لشباب أعادتهم لفحات الشمس الحارقة إلى نفي ذواتهم من قِيَم التضحية والوفاء". أضاف: "ما من شكّ في أنّ الصورة القدحية التي يقدّمها توفيق صالح عن العربي الثري، المكبوت جنسياً، والفلسطيني المخصي جسدياً، بأسلوبٍ ينأى عن ميلودراما المغامرة وثرثرة الخطابات البطولية، رغم "واقعيتها" وطوباوية الموقف السياسي الحامل لها، حتى ولئن جاءت أقلّ اندفاعاً مما هي عليه عند كنفاني، أدّت (الصورة) إلى منع الفيلم في جُلّ البلاد العربية لما يزيد عن أربعة عقود".
رغم الشهرة المدوّية للفيلم، نادرون من كتبوا عنه.
يقدّم الفيلم بورتريهات لأربع شخصيات: أبو قيس وأسعد ومروان وأبو الخيزران، من خلال "فلاش باك" يكشف مساراتهم قبل الوصول إلى شط العرب. يتحدّثون عن حصّتهم من الهواء، وعن ست دقائق أطول من كلّ سنوات المنفى. يمشون كأنّهم يمشون إلى الخلف. حوارات موجزة وكثيفة ولمّاحة. بالنسبة إلى أبي الخيزران، ضاع الوطن والرجولة، فصار الهروب حلاً، وصارت نظرية الحياة واضحة موجزة: "المال أهم من كلّ شيء". حصل ما توقّعه بوالو: "الفقر أوْلد الخسّة". والخسّة جلبت الموت. ليس صدفة ما فعله أبو الخيزران بأبناء وطنه.
يحتفظ "المخدوعون" بقوّته وراهنيّته بعد نصف قرن من صدوره. تنتهي الرواية بسؤال لغوي مفتوح: لماذا لمْ يدقّوا الخزّان؟ نهاية الفيلم أقوى. عدَّل صالح النهاية ليكون الاقتباس سينمائياً لا لغوياً: صورة وصوت. كان الثلاثة يدقّون الخزّان، بينما كان الثلاثة الآخرون (أبو الخيزران وموظّفا الجمارك) يتجادلون حول الفحولة والرقّاصة. كان الحرّ والزمن خانقين في الصهريج.
لا يزال الفلسطينيون في الخزّان، وما زال الجدل مُستمرّاً.