الكتابة عن علاقة شخصية بفلسطين، لحظة اندلاع حربٍ إسرائيلية جديدة على قطاع غزّة، بعد "طوفان الأقصى" (7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، تمرينٌ على استعادة ماضٍ غير مندثر، يمزج (التمرين) في نصّه انفعالاً وعاطفةً بوعي وتفكير وتأمّل. البدايات مليئة بانفعال وعاطفة، واللاحق ـ في عمرٍ يتمدّد في الزمن من عامٍ إلى آخر ـ يجعل الانفعال والعاطفة ركيزة ثابتة في اشتغال على وعي وتفكير وتأمّل.
باكراً، تبدأ تلك العلاقة بانفعال وعاطفة، قبل وقتٍ طويل على وعي وتفكير وتأمّل. صُور في منشورات وقصاصات صحافية، أعثر عليها في أرشيف شقيقي الوحيد سليم، غداة هجرته النهائية إلى أوروبا (5 يونيو/ حزيران 1976)، دافعٌ إلى سؤال عن رجلين يظهران في تلك الصُوَر: من هما؟ إجابة أهلٍ، ينكفئون عن كلّ سياسة وأحزابٍ وسلاح، خوفاً أو لامبالاة أو خيبة بعد انسلاخ من مدينةٍ تصنع حياتهم أعواماً مديدة (الإسكندرية)، غير شافية. الاحتفاظ بالمنشورات وقصاصات الصحف منبثقٌ من رغبة، غير واعية حينها، في امتلاك شيءٍ من شقيق، لن ألتقيه في أكثر من ربع قرن إلّا لماماً، قبل تثبيت العلاقة بالسفر إليه في غربته/ بلده (بلجيكا).
رجلان في صُور
أكتشف، متأخراً، أنّ الظَاهِرَين في تلك الصُور (التي أعثر عليها قبل بلوغي 11 عاماً بقليل) هما إيلاريون كبوجي وياسر عرفات. رجل دين تعتقله القوات الأمنية ـ العسكرية الإسرائيلية (18 أغسطس/ آب 1974)، ثم تحاكمه بـ"تهمة" نقل أسلحة إلى مقاتلي "منظمة التحرير الفلسطينية"، لقدرته، كرجل دين (مطران الروم الملكيين الكاثوليك في القدس)، على الذهاب إلى فلسطين المحتلّة برّاً من جنوبي لبنان؛ ورجلٌ، يرتدي كوفية وزيّاً بلون الكاكي، يُلقي في قاعةٍ كبيرة (الأمم المتحدة) خطاباً (13 نوفمبر/ تشرين الثاني 1974)، أقرأه لاحقاً، فتنغرس فيّ تلك الجملة الرائعة: "جئتُكم يا سيادة الرئيس بغصن الزيتون مع بندقية ثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي".
بداية تكوّن علاقة شخصية بفلسطين وشعبها متواضعةٌ للغاية. أسأل لاحقاً: "هل لعلاقة كهذه أنْ تنشأ، لولا صُور منشورات وقصاصات صحافية؟". أيضاً: "هل لعلاقة كهذه أنْ تنشأ، لو أنّ الشقيق يحتفظ بأرشيفه لنفسه، حاملاً إياه معه إلى غربته؟". تصعب عليّ الإجابة، رغم ميلي إلى قناعةٍ مفادها أنّ الصُور هذه دافعٌ لي إلى بحثٍ لاحق عن فلسطين وشعبها، وانشدادي إلى "السفير" من دون غيرها من صحف بيروت (مع أنّ الخال الأكبر، المُقيم في المبنى نفسه مع أهلي، يقرأ النهار، التي أقرأها بعده مساء كلّ يوم) متأتٍ من هاجسٍ لي بمعرفة "كلّ شيءٍ" عن هذين الرجلين، وعمّا يفعلانه، ومعهما عن فلسطين وشعبها.
تفاصيل كثيرة تحصل بدءاً من عام 1983، مع وَهَم انتهاء الحرب الأهلية (1975 ـ 1990)، وفتح الطرقات بين البيروتين، وبداية تردّدي شبه اليومي إلى شارع الحمرا، بمقاهيه ومكتباته وحاناته، ومنه إلى "السفير" لزيارة أناسٍ، سيكون لكلّ واحدٍ منهم دور مؤثّر في "قراءتي" الشخصية فلسطين وشعبها: الياس خوري ومحمد سويد وباسم السبع أولاً، وآخرون/ أخريات لاحقاً. في وقتٍ أنسى تاريخه، أحصل على صورة فوتوغرافية، بالأسود والأبيض (أرشيف "السفير")، لياسر عرفات. و"السفير" أساسيةٌ في تكوين وعي معرفي لي بفلسطين، وبثقافة وفنون وفكرٍ، وللسينما في هذا كلّه مكانٌ يتوسّع تدريجياً، ولسويد (ناقد سينمائي حينها، قبل مغادرته الصحافة إلى الإنتاج والإخراج الوثائقيين) دورٌ في هذا، والاستماع يترافق وتدرّباً على كيفية المُشاهدة، لا على المُشاهدة فقط.
البدايات السينمائية متنوّعة، لكنّ المرتبط منها بفلسطين وشعبها قليلٌ. اللبناني جان شمعون والفلسطينية مي المصري أولاً. اللبناني برهان علوية أيضاً. "كفر قاسم" (1975) خطوة أولى إلى سينما تكسر كلّ حدّ بين التسجيلي/التوثيقي والروائي، في تجربةٍ أستعيدها مراراً، لما فيها من اختبار بصري في مقاربة واقعٍ. فلسطينيو المخيمات اللبنانية وفلسطينياتها يحضرون مع شمعون ـ المصري، ومي تذهب إلى فلسطين المحتلّة، وتعود بما يُساهم في تفتّح إضافي لـ"وعي فلسطيني" لي. أفلام لبنانيين ولبنانيات تحكي شيئاً من فلسطين ومن يوميات شعبها، تُشَاهد بعيني شابٍ يريد فهماً وإجابات، فتمنحه تلك الأفلام بعض فهمٍ متأتٍ من بعض إجابات، وهذا حافزٌ لمزيدٍ من المُشاهدة والقراءة والمتابعة، وطرح الأسئلة.
تواريخ المشاهدة غير حاضرة في الذاكرة، والمُشاهدة حاصلة بعد أعوام على إنجاز تلك الأفلام. التراكم المعرفي مهمّ، وهذا لا علاقة له برأي نقدي في أفلامٍ، لها تأثيرات مختلفة، فلكلّ فيلم ميزة ما تبقى في الذات طويلاً. لـ"كفر قاسم" تأثيرٌ، يبدأ من نواته الدرامية (توثيق المجزرة التي يرتكبها جنود الاحتلال الإسرائيلي، في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1956، بحقّ 49 مدنياً من أبناء قرية كفر قاسم، البعيدة 18 كلم شرقي مدينة يافا)، العاكِسة فعلاً إجرامياً بلغة تمزج بساطة التوثيق بجمالية الخيال الملتصق بالواقع. للتأثير هذا جانبٌ آخر، يُنتجه اشتغال نقدي مديد: كيف لتوثيق تسجيلي بحت أنْ يصنع فيلماً روائياً، يستلّ حكايته من واقع، ويرويه بلغة سينمائية تريد تجديداً في مقاربة موضوع وتصوير حالة، وفي تجريب حركة الكاميرا في التقاطها ذاك الواقع الأليم؟
حكايات أفرادٍ
في مقالةٍ لي عنه (منشورة في رمان الثقافية، في 21 سبتمبر/ أيلول 2021)، أكتب التالي: "سينمائياً، يسبق "كفر قاسم"، بأعوامٍ مديدة، نمطاً وثائقياً يُعرف لاحقاً بالـ"دوكيو دراما"، أو الوثائقي الروائي، إذْ تتداخل أنواعٌ سينمائية في فيلمٍ واحد، يتناول موضوعاً أو شخصية أو حالة، بالاستناد إلى مستندات ووثائق مكتوبة ومسجّلة ومُصوّرة، مُضيفاً إليها فقرات تمثيلية مختلفة. هذا نوع من تجديد الاشتغال السينمائي الوثائقي لدى علوية، بالإضافة إلى اعتماد "جينيريك" مختلف، فأسماء العاملين في "كفر قاسم" تُكتب على الشاشة بشكلٍ متقطّع، بين مشهدٍ وآخر. بينما بعض أسماء شهداء المجزرة يُذكر عند تنفيذ القتل (كلّ اسم على لقطة لشهيد يؤدّي دوره ممثلٌ) في مَشاهد متخيّلة سينمائياً، وبعضها الآخر يُذكر في نهاية الفيلم، المعقودة على مقاطع من قصيدة "مغنّي الدم" (عن كفر قاسم) لمحمود درويش".
المُشاهدة الأولى لـ"كفر قاسم" لاحقةٌ على المشاهدة الأولى لـ"عرس الجليل" (1987)، للفلسطيني ميشيل خليفي. لكنْ، أهناك فرقٌ بين التأثرين؟ أشكّ في ذلك، رغم أنّ لكلٍ تأثير مفرداته ونتائجه. توثيق واقع بلغة سردية أدائية يختلف عن توثيق حالاتٍ وتقاليد وثقافات وسلوكٍ بلغة روائية صافيةٍ. إيجاد وثيقة بصرية، تستند إلى وثائق ومعطيات وحقائق، عن فعل إجرامي إسرائيلي، مؤثّرٌ، فللصورة التي تصنع تلك الوثيقة مكانةٌ أساسية، رغم أنّ في "كفر قاسم" مساحةً أكبر للتسجيلي. قول واقع فلسطيني أصيل، متجذّر في أرضٍ وتاريخٍ وثقافة وموروثات في الاجتماع والتربية والعلاقات (عرس الجليل)، مؤثّر أيضاً، وإنْ يختلف كلّ تأثير عن الآخر.
في "ضفة ثالثة" (العربي الجديد، 30 يونيو/حزيران 2015)، أكتب عن "عرس الجليل" أنّه، بُعيد إنجازه وعرضه، يُصبح "أحد أهمّ الأفلام الفلسطينية المؤسِّسة لانطلاقة تجديدية في السينما الفلسطينية". إنّه "قراءة واقع اجتماعي فلسطيني في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي، من دون الإسراف في جَلد النفس، وبعيداً عن أي تزلّف للإسرائيلي، لأنّ خليفي يتوغّل في أعماق البيئة الاجتماعية الثقافية الإنسانية الفلسطينية المُقيمة في ظلّ احتلال إسرائيلي، من دون أنْ ينسى قسوة الاحتلال نفسه، وتأثيراته السلبية على البيئة هذه".
أنْ يُصوِّر سينمائي فلسطيني بشاعة بعض الموروث التربوي الاجتماعي في البيئة الفلسطينية، الخاضعة لاحتلال يُبرهن عن قذارته وعنفه ووحشيّة أفعاله اليومية في ممارسة تسلّطه، هذا وحده يُؤسِّس مفهوماً جديداً لسينما فلسطينية، تقترب كثيراً من واقعية سينمائية، تُطلق مساراً سينمائياً فلسطينياً يُعنى بالفرد الفلسطيني، وأحواله ومشاعره ومآزقه وأحلامه ومخاوفه وقلقه ورغباته، ويعاين تأثيرات الاحتلال عليه، وعلى بيئته وعلاقاته ويومياته. في "كفر قاسم" شيءٌ من هذا، وإنْ في مستوى آخر: في الجانب التمثيلي المتخيّل، هناك أفرادٌ يُظهرون تفاصيل من يومياتهم/يومياتهنّ كأفرادٍ، لهم/لهنّ أحوال ومشاعر ومآزق وأحلام ومخاوف وقلق ورغبات. لهم/لهنّ انفعال حبّ، وارتباك لحظة. انفعال وارتباك حاضران في "عرس الجليل" أيضاً، وإنْ بأسلوب مختلف.
هذا ليس نقداً. المقارنة بين الفيلمين (إنْ يكن السابق مقارنةً) متأتيةٌ من تلك العلاقة الشخصية البحتة بهما، فاللحظة الراهنة (طوفان الأقصى) تُحرِّض على مقاربة شخصية لفلسطين وشعبها، باستعادة أول فيلمٍ فلسطيني، أو عربي/أجنبيّ عن فلسطين وشعبها، له تأثيرٌ على ذاتٍ، وعياً وثقافة وتفكيراً. لكنّ هذا كلّه سابق على مُشاهدة فيلمٍ آخر لمخرج فلسطيني آخر: "سجل اختفاء" (1996) لإيليا سليمان، الذي "يفتتح" علاقة، شخصية/ذاتية وثقافية وسينمائية وبشرية وحسّية وانفعالية وتأمّلية، بأفلامٍ لاحقة وسابقة له. فهل "يغلب" تأثير أفلام سليمان عليّ؟ ربما، رغم شكٍّ بهذا، فـ"كفر قاسم" و"عرس الجليل" باقيان في ذاتٍ، كـ"أوّل" فيلمين لهما تأثير كبير فيّ.
تأثير أفلام سليمان إضافة نوعيّة، وهذا مُفيد لي جدّاً، لما فيها من اشتغالاتٍ، يصعب اختزالها في نصّ كهذا. خاصة أنّ لسينمائيين/سينمائيات آخرين تأثيرات لاحقة، لن تكون أخفّ حيوية وسجالاً وتحريضاً على المزيد من البحث والمعرفة، بفضل هذه الأفلام تحديداً.
تأثيرات لاحقة
لن تؤثّر فيّ أفلام إيليا سليمان، وحدها، بعد فيلمي برهان علوية وميشيل خليفي. يمرّ وقتٌ. تُنجز أفلامٌ، وتُشاهَد. تحصل لقاءات مع سينمائيين وسينمائيات فلسطينيين. أوّلهم ميشيل خليفي نفسه. دردشات ونقاشات، قبل أنْ يُخبرني بأنّ لي في الناصرة عائلةً كبيرة، وهذا يؤكّده إميل حبيبي لي، بعد أعوامٍ قليلة. أي فرحةٍ بلقائه بعد مشاهدة "عرس الجليل"؟ ستُشبه تلك الفرحةُ فرحةَ أول لقاء لي مع برهان علوية وإيليا سليمان وهاني أبو أسعد، ومعهم هناك حوارات صحافية منشورة في "السفير" أساساً. وأيضاً، بمرور الوقت، تُناقش أمور واشتغالات وأساليب، وتُطرح أسئلة، فإجابات عدّة غير شافيةٍ، أو قليلة.
أحد تلك الأسئلة: لماذا يغيب الفلسطيني، كشخصية أساسية، في أفلامٍ روائية لبنانية، تستعيد الحرب الأهلية، وتُنجز في أعوام تلك الحرب، وفي الأعوام اللاحقة عليها؟ أليس الفلسطيني، المُسلّح على الأقلّ، حاضرٌ في الحرب الأهلية تلك، بل أحد أسباب اندلاعها؟ يحضر هنا "القضية 23" (2017) للّبناني زياد دويري، كـ"أول" فيلم روائي لبناني يمنح الشخصية الفلسطينية مكاناً أساسياً في سرد حكايتها، رغم الحاجة الماسّة إلى نقاشٍ نقديّ كثيرٍ يتناول هذا الفيلم ومخرجه، في سيرته وأفعاله ومواقفه. إجابات سينمائيين وسينمائيات لبنانيين نابعةٌ من وقائع ومشاعر. يقولون إنّ مسألةً كهذه غير سهل تناولها سينمائياً. هناك من يُعبِّر عن رغبة في مشروعٍ، لكنّ التحضيرات تتطلّب جهداً ووقتاً قبل التنفيذ. يُقال لي إنّ التجربة الشخصية/الذاتية تحول دون صُنع فيلمٍ عن الحرب الأهلية اللبنانية، يكون للفرد الفلسطيني، مقاتلاً/مقاتلة أم لا، مكانٌ فيه، لأنّ العيش في "المناطق الشرقية"، قبل اندلاع الحرب وفيها، غير مانحٍ علاقة مباشرة به: "لم أتعرّف على فلسطيني واحد في طفولتي ومراهقتي وشبابي، وما أفعله في أفلامي منبثقٌ من تجارب شخصية بحتة".
هذا غير عابرٍ. القراءة النقدية للسؤال غير ملائمةٍ في سياق الكتابة عن العلاقة الشخصية بفلسطين وشعبها، عبر أول فيلمٍ فلسطيني، أو عن فلسطين وشعبها، يؤثّر شخصياً/ذاتياً. فـ"سينما فلسطين" مليئةٌ، أقلّه منذ منتصف تسعينيات القرن الـ20، بأفلامٍ تصنع من لغة الصورة فعلاً إبداعياً، يقول ويبوح ويكشف ويُعرّي ويُفكِّك ويلتقط. أفلامٌ تؤثّر وتُضيف، وتحثّ على سجالٍ مُفيد.
أما اللحظة الراهنة، فتشي بمزيدٍ من خرابٍ وتنكيل وتعذيب، لأنّ آلة القتل الإسرائيلي تستمدّ "عيشها" من جثث فلسطينيين وفلسطينيات، ومن أنقاضٍ بيوتهم وحرق أرضهم. اللحظة الراهنة؟ صُور كثيرة منها، ومن سابقاتها في 75 عاماً، تؤثّر، وتأثيراتها عالقةٌ في ذات ونفسٍ وتفكير. صُور تكاد تكسر كلّ حدّ يفصل بين الخيال والواقع، كأنّ الحاصل شريط "دوكيو دراما" لم/لن يصنعه أحدٌ لشدّة واقعيّته الأشبه بالخيال.