تطالعنا وسائل الإعلام هذه الأيام بأخبار تبرع دول عربية بمبالغ نقدية لمساعدة غزة، في ظل مواجهتها لآلة الحرب الإسرائيلية، فالكويت أعلنت عن تقديم 10 ملايين دولار، والسعودية 200 مليون ريال سعودي، كما أعلنت قطر عن منحة عاجلة لغزة بمبلغ 5 ملايين دولار.
تبرعات العرب لغزة ليست جديدة، ففي القمة الاقتصادية العربية الأولى في الكويت المنعقدة في عام 2009، وقف العرب مكتوفي الأيدي أمام مجازر غزة، ليعلنوا عبر قمتهم تخصيص 2 مليار دولار لإعادة إعمار غزة. وللهروب من ذلك الالتزام، تم الإعلان حينئذ أن هذه المخصصات ستذهب للسلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس.
وهذا وحده كان كفيلا بعدم وصول دولار واحد لغزة، لعدم اعتراف عباس بحكومة هنية المنتخبة في غزة في ذلك الوقت.
مضت الأيام ونحن لا نعرف ثقافة المحاسبة لقادتنا العرب، سواء في ما يخص دولنا، أو في ما يخص شأننا العربي والإقليمي. فهل ذهبت مليارات إعمار غزة إلى السلطة الفلسطينية أم لا؟!.
إن الواقع يدل على عدم وفاء العرب بما تم الإعلان عنه خلال قمتهم الاقتصادية بالكويت 2009 والخاص بإعمار غزة، وسط تعنت من قبل السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، وغياب آلية البنوك الرسمية التي تتطلب معاملة الحكومات العربية.
بلا شك، ستكون التبرعات والمنح التي تم الإعلان عنها قبل أيام، إن صدقوا في دفعها، في شكل تبرعات عينية تمر عبر المعابر التي تسيطر عليها إسرائيل، وسيكون موقف الحكومة المصرية معرقلًا لوصول المساعدات العربية، فمصر تمنع مرور أية مساعدات لغزة من معبر رفح، إلا المساعدات الطبية، والأفراد، وتطالب بمرور أية مساعدات أخرى عبر المعابر التي تسيطر عليها إسرائيل.
والصراع العربي مع الكيان الصهيوني، استمر نحو 4 عقود متصلة، إلا أن الكيان الصهيوني بمساعدة أميركا والغرب، استطاع تغيير معادلة الصراع، ليكون صراعاً فلسطينياً – إسرائيلياً، في مطلع تسعينيات القرن الماضي، عبر مؤتمرات السلام، وبخاصة مؤتمر مدريد، الذي تم فيه تفريغ المقاطعة العربية من مضمونها، ولتحقق إسرائيل العديد من المكاسب الاقتصادية للسلام المزعوم، وكان أبرزها إقامة علاقات اقتصادية مع العديد من الدول العربية، من خلال السفارات، أو مكاتب التمثيل التجاري.
إن مساعدة العرب لفلسطين بشكل عام، ولغزة بشكل خاص، تتضاءل عندما تقصرها في تلك التبرعات النقدية أو العينية التي تخرج من جيوب حكام العرب، كلما قامت إسرائيل بمجازر ضد الشعب الفلسطيني، وبخاصة في غزة. فهناك مجالات تظهر فيها المساعدات بمردود إيجابي، يمكنه أن يغير من طبيعة الصراع، ويساعد على انهاء الاحتلال، بعد النقلة النوعية في أداء حركات المقاومة الفلسطينية، من حيث تطوير عملياتها، وأسلحتها.
وفي ما يلي، نتناول أوجه تلك المساعدات التي يتغافل عنها العرب في مساعدتهم لغزة.
مطالبة إسرائيل بتعويضات حقيقية
في كل مرة تستمر إسرائيل في تدمير البنية الأساسية وممتلكات الأفراد في قطاع غزة، وفي غيره من أرض فلسطين المحتلة، وينتهي الأمر بالوصول إلى وقف إطلاق النار، وكأنه نهاية المبتغى!.
إن الموقف العربي الضعيف يساعد إسرائيل على تنفيذ جرمها كل مرة، دون عقاب، فلو أنها تعرضت لدفع تعويضات عن قيامها بالاعتداء على الممتلكات والأرواح، لما أقدمت على فعلتها بكل سهولة، كما اعتادت.
إن مساعدات العرب في شكل عدة ملايين، أو مليارات، لإعادة الإعمار، دون تغريم إسرائيل بكلفة ما قامت بهدمه، هي بمثابة موافقة على أن تقوم إسرائيل بتكرار فعلتها، فإسرائيل تدمر وتخرب وتقتل، والعرب يدفعون!
إن معظم مفاوضات فض النزاع التي يشهدها العالم تعرف هذه التعويضات، ولن نذهب بعيداً، فصدام حسين فرضت عليه تعويضات لصالح الكويت عندما قام بغزوها في عام 1990، وأتت هذه التعويضات تحت مظلة اتفاق ترعاه الأمم المتحدة، كما تقوم دولة الكيان الصهيوني إلى الآن بابتزاز المانيا بدفع تعويضات عما تزعمه من جرائم ارتكبت في حق اليهود إبان الحرب العالمية الثانية.
عودة المقاطعة العربية
جنت إسرائيل الكثير من إنهاء المقاطعة، وحققت رواجاً اقتصادياً، من خلال إقامة علاقات مع دول آسيوية وأفريقية، كانت تقف إلى جانب الحق العربي، وفور إعلان نتائج مؤتمر مدريد للسلام في عام 1990، بادرت إسرائيل بتنشيط علاقاتها الاقتصادية مع تلك الدول، فضلاً عن استقدامها لاستثمارات أجنبية، وازدهار حركتها السياحية.
العجيب هو هرولة العرب أنفسهم، إلى إقامة علاقات اقتصادية مع دولة الكيان الصهيوني، فدول الخليج اكتفت بمكاتب التمثيل التجاري، بينما انضمت موريتانيا إلى مصر والأردن، بفتح سفارة للكيان الصهيوني على أراضيها.
إن عودة المقاطعة العربية للكيان الصهيوني، سوف تكبد إسرائيل الكثير اقتصادياً، ولكن في ظل هذا الواقع المؤلم للتعاون العربي، من الصعوبة بمكان أن يعود مكتب المقاطعة العربية - الذي لم يكتمل النصاب القانوني لانعقاده منذ ما يزيد عن 24 عاماً – لممارسة دوره. لكن على الأقل أن يتم تفعيل المقاطعة الشعبية تجاه إسرائيل والدول الداعمة لموقفها.
إن مقاطعة إسرائيل من بعض الدول الغربية عمل ملموس على أرض الواقع، فغير مرة تعلن مدن غربية عن عدم استقبالها للسلع الإسرائيلية المنتجة في مستوطنات غير رسمية، وذلك كنوع من التضامن مع حق الشعب الفلسطيني في العيش على أرضه، فما بالنا بالشعوب العربية، التي نجحت خلال السنوات الماضية، في أن تلحق خسائر كبيرة لشركات ترتبط أو تدعم إسرائيل، من خلال حملات المقاطعة التي نظمت من قبل.
وسوف يكون توطيد العلاقة مع من يتعاطفون مع القضية الفلسطينية بالغرب وفي آسيا وأفريقيا، وضد الممارسات الإسرائيلية أثراً إيجابياً في الضغط على إسرائيل ومساعدة المقاومة الفلسطينية، وإذا كانت الأنظمة العربية لا تجرؤ على القيام بهذا الدور، فلتتركه للممارسة الشعبية، حيث تتوافر لها فرص النجاح والتواصل بشكل أفضل.
تفعيل العلاقات الاقتصادية مع فلسطين
مما يؤسف له أن العلاقات الاقتصادية العربية مع دولة الكيان الصهيوني أكبر من تلك العلاقات مع السلطة الفلسطينية، فعلاقة الدول العربية مع الكيان الصهيوني تتمثل في عقد صفقات تجارية، وفي بعض الأحيان بوجود استثمارات متبادلة، بينما العلاقة مع السلطة الفلسطينية لا تعدو أن تكون أكثر من مساعدات نقدية لدعم موازنة السلطة، أو تقديم مجموعة من الخدمات الصحية وسيارات الإسعاف.
إن اتفاق باريس الذي أصبح جزءاً من اتفاقية غزة وأريحا المبرمة في عام 1994، لم يفعّل على أرض الواقع بشكل كبير، من قبل الدول العربية، فحتى الآن نجد أن زمام التعاملات المالية للسلطة الفلسطينية في يد إسرائيل، ولم يُلمس أي أثر للسلطة النقدية الفلسطينية كما نص عليه الاتفاق.
قد يكون العمل في إطار اتفاق باريس نوعاً من التكريس للاتفاقيات الظالمة التي أبرمت مع الكيان الصهيوني، لكن ما المانع من تنشيط معبر رفح، ليكون مساراً طبيعياً لعلاقات اقتصادية عربية مع غزة، وكذلك الأمر في الضفة، من خلال الأردن.
على أن يكون هذا التعامل في إطار عربي، يشجع حركة الصادرات من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعدم وضعها تحت السيطرة الإسرائيلية.
الواقع المخزى للأنظمة العربية تجاه القضية الفلسطينية لا يحتاج إلى دليل، لذلك فضلت هذه الأنظمة تقديم المساعدات الشكلية لفلسطين، وبخاصة لغزة، وتخلت عن تقديم مساعدات جوهرية تحفظ للقضية مضمونها، وتسهم في حلها، كما ذكرنا سابقاً، إن واقع مساعدة بعض المنظمات والأفراد والغرب أفضل بكثير من دولنا العربية.
فمجرد إعلان مدن غربية وقف الاستيراد من إسرائيل لسلع تنتج في مدن مغتصبة، يربك إسرائيل، ويجعلها تهدد بقطع علاقاتها الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، فما بالنا إذا ترك حكام الدول العربية أمر تنظيم المقاطعة الشعبية لإسرائيل ولمن يدعمها ويقف بجوارها في ممارساتها الإجرامية، أو استمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية.